للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

معناها الواقع.

والحياة المستقلة ذات قواعد وقوانين دقيقة لا يترخص فيها مادام أساسها إيجاد القوة وحياطة القوة وأعمال القوة، ومادامت طبيعتها قائمة على جعل أخلاق الشعب حاكمة لا محكومة. وقد كان العمل السياسي إلى الآن هو إيجاد الضعف وحياطة الضعف وبقاء الضعف؛ فكانت قواعدنا في الحياة مغلوطة، ومن ثم كان الخلق القوي الصحيح هو الشاذ النادر يظهر في الرجل بعد الرجل والفترة بعد الفترة؛ وذلك هو السبب في أن عندنا من الكلام المنافق أكثر من الحر، ومن الكاذب أكثر من الصادق، ومن المماري أكثر من الصريح؛ فلا جرم ارتفعت الألقاب فوق حقائقها وصارت نعوت المناصب وكلمات باشا وبك من الكلام المقدس صحافياً. . . .

يا لعباد الله! يأتيهم اسم الأديب العظيم فلا يجدون له موضعاً في (محليات الجريدة)؛ ويأتيهم أسم الباشا أو البك أو صاحب المنصب الكبير فبماذا تتشرف (المحليات) إلا به؟ وهذا طبيعي، ولكن في طبيعة النفاق، وهذا واجب ولكن حين يكون الخضوع هو الواجب. ولو أن للأديب وزناً في ميزان الأمة لكان له مثل ذلك في ميزان الصحافة، فأنت ترى أن الصحافة هنا هي صورة من عامية الشعب ليس غير. . . ومن ذا الذي يصحح معنى الشرف العامل لهذه الأمة وتاريخها - وأكثر الألقاب هي أغلاط في معنى الشرف. . .؟

ثم ضحك أبو عثمان وقال: زعموا أن ذبابة وقعت في بارجة (أميرال) إنجليزي أيام الحرب العظمى؛ فرأت القائد العظيم وقد نشر بين يديه درجاً من الورق وهو يخطط فيما رسما من رسوم الحرب. ونظرت فإذا هو يلقي النقطة بعد النقطة من المداد ويقول: هذه مدينة كذا، وهذا حصن كذا، وهذا ميدان كذا. قالوا فسخرت منه الذبابة وقالت: ما ايسر هذا العمل وما أخف وما أهون! ثم وقعت على صفحة بيضاء وجعلت تلقي وَنِيمَها هنا وهناك وتقول: هذه مدينة، وهذا حصن. . .

والتفت الجاحظ كأنما توهم الجرس يدق. . . فلما لم يسمع شيئاً قال:

لو أنني أصدرت صحيفة يومية لسميتها (الأكاذيب)، فمهما أكذب على الناس فقد صدقت في الاسم، ومهما أخطئ فلن أخطئ في وضع النفاق تحت عنوانه

قال: ثم أخط تحت أسم الجريدة ثلاثة أسطر بالخط الثلث هذا نصها:

<<  <  ج:
ص:  >  >>