للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

معجزات الصحافة إذ تعاطاها الكاتب البليغ بالفطنة العجيبة والمنطق الملون والمعرفة بأساليب السياسية، فتكون للتهويل وهي في ذاتها اطمئنان، وللتهمة وهي في نفسها براءة، وللجناية وهي في معناها سلامة. ولو نفخ الصحافي الحاذق في قبضة من التراب لاستطارت منها النار وارتفع لهبها الأحمر في دخانها الأسود. قال: وإن هذا المنطق الملون في السياسة إنما هو إتقان الحيلة على أن يصدق الناس، فأن العامة وأشباه العامة لا يصدقون الصدق لنفسه ولكن للغرض الذي يساق له، إذ كان مدار الأمر فيهم على الإيمان والتقديس، فأذقهم حلاوة الإيمان بالكذب فلن يعرفوه إلا صدقاً وفوق الصدق، وهم من ذات أنفسهم يقيمون البراهين العجيبة ويساعدون بها من يكذب عليهم متى أحكم الكذب، ليحققوا لأنفسهم أنهم بحثوا ونظروا ودققوا. . .

ثم قال أبو عثمان: ومعنى هذا كله إن بعض دور الصحافة لو كتبت عبارة صريحة للإعلان لكانت العبارة هكذا: سياسة للبيع. . . .

قلت: يا شيخنا فإنك هنا عندهم لتكتب كما يكتبون، ومقالات السياسة الكاذبة كرسائل الحب الكاذب تقرأ فيها معان لا تكتب، ويكون في عبارتها حياء وفي ضمنها طلب ما يُستَحى منه. . . والحوادث عندهم على حسب الأوقات، فالأبيض اسود في الليل والأسود ابيض في النهار، ألم تر إلى فلان كيف يصنع وكيف لا يعجزه برهان وكيف يخرج المعاني؟

قال: بلا نعم الشاهد هو وأمثاله. إنهم مصدقون حتى في تاريخ حفر زمزم

قلت: وكيف ذلك؟

قال: شهد رجل عند بعض القضاة على رجل آخر، فأراد هذا أن يجرح شهادته، فقال للقاضي: أتقبل منه وهو رجل يملك عشرين ألف دينار ولم يحج إلى بيت الله؟ فقال الشاهد: بلا قد حججت. قال الخصم: فأسأله أيها القاضي عن زمزم كيف هي؟ قال الشاهد: لقد حججت قبل أن تحفر زمزم فلم أرها. . .

قال أبو عثمان: فهذه هي طريقة بعضهم فيما يزكي به نفسه؛ ينزلون إلى مثل هذا المعنى وإن ارتفعوا عن مثل هذا التعبير؛ إذ كانت الحياة السياسية جدلاً في الصحف لنفي المنفي وإثبات المثبت، لا عملا يعملونه بالنفي والإثبات. ومتى استقلت هذه الأمة وجب تغيير هذه الصحافة وإكراهها على الصدق فلا يكون الشأن حينئذ في إطلاق الكلمة الصحافية إلا من

<<  <  ج:
ص:  >  >>