نهضتهم قبيل الحروب الفارسية وبعدها، فكان كثير من أفذاذهم وعلماءهم أمثال لكرغ وصولون وهيرودوت وطاليس وأفلاطون رحالين جابوا مهود الحضارة الشرقية، وأخذوا عن المصريين والبابليين علومهم، وكتبوا مشاهداتهم في رحلاتهم، واصفين جغرافية تلك البلاد وتاريخها، وهبت ريح المغامرة شديدة على الممالك الأوربية في عهد إحياء العلوم، فدفعتهم إلى ارتياد العالم المعروف واكتشاف العالم المجهول، وبسط حضارتهم وثقافتهم في أطراف العالمين القديم والجديد. وكان من رادة هذه النهضة مركوبولو وداجاما وكولمبس
وقد كان أكثر العرب في جاهليتهم رحالين لا ينزلون أرضاً إلا ريثما يتحولون عنها، يطلبون الكلأ أو يبتغون القتال أو ينقلون التجارة؛ ومن ثم شغفوا حباً بإبلهم وجيادهم، وترنموا بوصفها، وكثرت في لغتهم أسماؤها وأسماء سيرها، وقدموا الحديث عنها بين يدي قصيدهم، وأدمنوا ذكر ارتحال أحبتهم، وتمدحوا بطول التنقل وإنضاء الرواحل وإباء المقام بأرض الذل. وكان بعض سادتهم يسفرون إلى ملوك الروم والفرس؛ وإلى تلك الرحلات المختلفة الأغراض يرجع الفضل في انتشار بعض أسباب الحضارة والرقي الفكري والكتابة الخطية بين العرب قبيل الإسلام. ولا ريب إن الرحلات التي قام بها الرسول الكريم كانت من أهم عوامل تكوينه الروحي والعقلي، حتى تهيأ له أن يضطلع برسالته العلوية؛ فالرحلة عادة من أهم العناصر المكونة لشخصية العظيم؛ كما أن الرحلات التي قام بها في الجاهلية أفذاذ القواد أمثال عمرو بن العاص إلى الممالك المجاورة كانت عظيمة النفع للجيوش العربية حين توجهت لغزو إمبراطوريتي الفرس والروم. ومن تمدح العرب بالرحلة عن موطن الهوان قول الشنفري:
ولولا اجتناب الذام لم يلف مشرب ... يعاش به ألا لدي ومأكل
ولكن نفساً حرة لا تقيم بي ... على الذل ألا ريثما أتحول
وقول الشاعر الإسلامي أوس بن معن:
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ... وفيها لمن خاف القلى متعزل
ونهض العرب نهضتهم الحربية العظيمة فرأوا من أقطار الأرض وصنوف الخلق ما لم يكن يخطر لهم ببال وكان لذلك كل الأثر في أذهانهم وآدابهم، والتقت تحت رايتهم شتى الحضارات والأجناس، وشدت الرحال من أقصى إمبراطوريتهم إلى أقصاها: وهدأت