للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

في ذلك بدلوهم، وقل منهم من لم يرحل عن وطنه ولم يتغرب في بعض الأغراض؛ واثر ذلك ملحوظ في الأدب، غير أنه ضئيل محصور في مواطن قليلة: كوصف الرحلة إلى بلد الأمير الممدوح يقدم في صدر المدحة، وكالحث على الارتحال في طلب العلم والرزق والمنفعة وصحبة الماجدين في أشعار مشهورة سار كثير منها أمثالاً: يشبه فيها المرء في وطنه بالأسد في غابة لا يصيد، والماء في مستقره يأسن، والعود في أرضه لا ينفق ولا يزكو، والشمس في دارة الحمل لا يغني عنها شرف المحل؛ ومن جيد ما قيل في ذلك قول أبي تمام:

ولكنني لم أحو وفرا مجمعا ... ففزت به إلا بوفر مبدد

ولم تعطني الأيام نوما مسكنا ... ألذ به إلا بنوم مشرد

وطول مقام المرء في الحي مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدد

فإني رأيت الشمس زيدت محبة ... إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد

وكثير مما قيل في الرحلة في هذا الباب متشابه لا يمتاز بعضه من بعض إلا في قوة الأسلوب أو ضعفه، وكثرة ما به من محسنات أو قلته، وكثير منها يتفق في تداول نفس المعاني والاستعارات، جرياً على عادة المحافظة على تقاليد المتقدمين الأدبية، التي أتبعها الأدباء في كثير من فنون القول. أما الوصف المسهب لروائع المشاهدات التي تمتع بها الأديب في سفراته، وأثرها في ذهنه وقلبه، وتحويلها لنظرته إلى الحياة والكون، وما أثارته فيه من تأمل طويل، وما نازعه من حنين عميق إلى أوطانه، وما استرعى نظره من محاسن الطبيعة، وراع نفسه من آثار الأقدمين وبدائع فنون الإنسان؛ أما الوصف المسهب المفصل لكل ذلك، وتصوير أثر الرحلة في تكوين شخصية الأديب - فهي من أم عناصر ذلك التكوين - فقلما يبدو في الأدب العربي، فهذا باب آخر من أبواب الأدب الصميمة تغاضى عنه الأدب العربي، وتركه بين أيدي كتاب التاريخ وتقويم البلدان، وتخلى للأدب العامي

فالرحلة عن الموطن في نظر الأديب المثقف ليست فقط وسيلة لابتغاء الرزق أو اصطحاب الماجد أو قصد الملوك، ولا هي وسيلة لطلب العلم والأدب المدون والمحفوظ فحسب. بل هي قبل هذا وذاك وسيلة للمشاهدة واكتشاف الجديد والاطلاع على المجهول والوصول إلى

<<  <  ج:
ص:  >  >>