البعيد. فطول مقام المرء في الحي لا يبغضه إلى معارفه ولا يحرمه من الوفر المجمع فقط، بل هو يضيق أفق ذهنه ويخمد قوى نفسه ويكفكف وثبات مطامحه؛ والرحلة تثير عزيمته وتزيد نشاطه وقدرته على التفكير والإنتاج، وتطلعه على أحوال الأمم الأخرى التي تزيده بصراً بأحوال أمته ومجتمعه ونفسه، وتشهده بدائع الطبيعة التي تتجدد حلاها في كل خطوة، وتتبدل محاسنها من بقعة إلى بقعة، وتبدي من أسرار جمالها صورة في أثر صورة، وفي ذلك من متعة النفس وغذاء الخيال والفن ما فيه. كما أن الوحدة التي هي نصيب الغريب في كثير من أوقاته تعوده الوقوف عن العالم المضطرب بنجوة، وإدمان الفكرة فيما يشاهد من أمور بنيه، وبالكثير من هذا يعج الأدب الإنجليزي
كان الإنجليز كما كان العرب في أول أمرهم رحالة دائبي التجوال والهجرة والمقاتلة، بيد أنهم كانوا منصرفين إلى البحر مزاولين للملاحة، فلما استوطنوا الجزيرة جنحوا إلى حياة الاستقرار رويدا رويدا، وإن لم ينفكوا عن حبهم للبحر وركوب أثباجه، وساهموا في النهضة الأوربية فأولعوا بالرحلة والمغامرة والكشف في عهد اليزابيث وما يليه، ونبغ من رحاليهم ومغامريهم أمثال رالي ودريك من رفعوا مكانة إنجلترا في البحر وما وراءه، وتلاهم التجار ورجال الأعمال والمهاجرون اتباع المذاهب الدينية المضطهدة، وانتشر الشعب الإنجليزي شرقا وغربا، وانتشر العلماء والأدباء في اثر ذلك يكثرون معارفهم ويستقصون مباحثهم، وصار من تقاليد خريجي الجامعات أن يطوفوا في بعض أنحاء القارة الأوربية عقب إتمام دراستهم، ليعرفوا أحوال الأمم ويزوروا خاصة إيطاليا واليونان مهدي الحضارة القديمة، وفرنسا التي ظلت زعيمة الثقافة والمدنية في أوربا مدى حين
وكان لأكثر أدباء الإنجليزية ولع بالرحلة لا ينقضي، وشغف بالبعيد لا يهدأ، وغرام بالاستطلاع لا يحد، واشتغال بمظاهر الطبيعة المتجددة ومحاسنها المتعددة، وتطلع إلى أحوال الأمم قاصيها ودانيها حاضرها وماضيها، ومن ثم أولعوا بالرحلة يقضون بها مآرب أرواحهم: فطوفوا في أنحاء جزيرتهم ولاسيما منطقة البحيرات ومرتفعات اسكتلندا وجزرها، وشخصوا إلى أصقاع أوربا المشهورة كباريس وإسبانيا ورومة والبندقية وأثينا، وجول بعضهم مثل كنجليك ولين بول في الشرق، وأودعوا أوصاف رحلاتهم تلك مذكراتهم أو رسائلهم إلى أصدقائهم في الوطن أو قصصهم أو قصيدهم