قالت البنت الكبرى: إنه تأخر الليلة عن موعده يا أماه.
قال الولد الأكبر: أنا أعرف إنه تأخر ليملأ جيبه بالمال، وسوف ترون كيف يوسع علينا الليلة فتشبع بطوننا بكل ما نشتهيه.
وما هي إلا هنيهة حتى أقبل الرجل يتحامل على نفسه فيتقدم به شيء ويتأخر به شيء. . . يتقدم به الحنين إلى أولاده وتتأخر به الحسرة عليهم. . . فهو بين الماشي والواقف، يحمل على كتفه صندوقه وفيه تجارته يجوب بها الطرقات.
ورآه الأولاد مقبلاً فجنوا جنون الفرح، واستيقظت النائمة على أصواتهم، ونهضوا جميعاً يهللون ويصيحون: جاء أبونا. . جاء أبونا. . . أما هو فقد لقيهم بوجه كاسف مغبر، فكان كمن توقع مصيبة فوافته مصيبتان. وأسلم لهم يديه وجسمه يتعلقون به ويتواثبون حوله، وأبقى لنفسه رأسه بما حوى من فكر وما حمل من هم.
أما زوجته فقد علقت بصرها به فعرفت ما به، وبادلته نظرات مستصرخة بنظرات صارخة ثم تنفست وقالت: يا رب.
ووضع الرجل صندوقه وجلس إلى جوارها مكبكباً مخذولاً؛ والتأم الأولاد حولهما وقال الولد الأصغر: هل نكثت بوعدك يا أبي كعادتك؟. قال الرجل: لا يا بني. سأفي إن شاء الله
قال الولد: ومتى يشاء الله؟. كل يوم تقول هذا ولا تفعل شيئاً!!
قالت البنت الصغرى: لقد تأخرت يا أبي للآن ولم نأكل، ألم تدر أنني جائعة؟ إني سأخاصمك ولكن بعد العشاء
فضحك الرجل ضحكة باكية ثم قدم لزوجه ما في جيبه وقال: خذي هذا فهو كل ما رزقته في مطافي. . .
وما الذي كان في جيبه؟.
قرش ونصف قرش جناها الرجل من سعيه طول يومه، فهل تكفي لقوت أسره لا أدم عندها ولا خبز؟ يا رحمة الله بالمساكين! يا رحمة الله! أي فقر هذا؟
أطفال أبرياء يرهقهم الجوع وليس لديهم مما يحمله غير الصياح والتوجع، وليس حولهم مما يدفعه غير تسلية أمهم ووعودها وأم حسرى ممزقة الكبد، ترى أولادها وهم فتات قلبها نوحاً يتكلم الجوع بألسنتهم. ويتكلم ألم الجوع بعيونهم، وهي حيرى تسمع كلامهم بأذنها