أما الرجل. فكان مطرقاً واجماً لا يطيق أن يرى موقف البكاء في منظر الفقر بين زوجه وأولاده؛ وكان تائها في دنياه يرى بخياله ماضيه الرخي الناعم فيهز رأسه، ويرى بعينه حاضره الشقي المظلم فيزفر، ويرى بفكره مستقبله الحالك المقطب فيرتعد
ثم ضاقت به نفسه فخرج على حكمة الرجولة وهوى من ثبات الإيمان إلى خور اليأس. . . وبكى. . . وبكى بكاء رجل، وما أمر بكاء الرجال!!
ثم رفع المسكين رأسه وقال: يا رب ما ذنبي وذنب صغاري؟ ماذا يطعم هؤلاء الليلة وماذا يطعمون كل ليلة؟
قالت الزوجة: خفف عنك حملك. . . إن الله لم يخلقنا لينسانا. . . إنه يرانا. . . إنه قادر رحيم. . .
ثم قالت: سأخرج الآن لأشتري بالقرش خبزاً وبالنصف قرش جبناً ليأكل هؤلاء. وغداً يفعل الله بنا ما يريد
ورضي الأولاد أن يمسكوا رمقهم بالجبن، فشيء خير من لا شيء. . وخرجوا تصحبهم أمهم لتهون عليهم في الطريق مشقة انتظار الطعام، ومشوا حولها يتناقشون. . . يقول هذا: أنا الذي أحمل الخبز، وتقول هذه: لا. . أنا التي أحمله. . . ويقول هذا: أنا الذي أصون الجبن، وتقول هذه: لا. . . أنا التي أصونه. . . ثم يقول هذا: أنا الذي أجلس إلى جنب أمي وقت الأكل، وتقول هذه: لا. . . أنا التي أجلس إلى جنبها. . .
حتى إذا كانوا على بعد خطوات من البدال كان النقاش بينهم على اشده، فعثرت أمهم بأحدهم فكادت تسقط على الأرض وسقطت النقود من يدها. .: فقفزت لترد القضاء ولكن القضاء أسبق!! حمل القرش والنصف إلى الطين ثم إلى الخفاء
يا لله!! يا لله!! ما هذه الدنيا؟ إنها لا ترحم ولا تعرف ألين في القسوة. نكبت هذه الأسرة بالفقر ثم لم يرضها هذا حتى نكبتها بفقر الفقر! يا أيها الأغنياء. . . كيف يحل لكم عيشكم الرغيد وفي الحياة مثل هذه الأسرة؟
ومدت المسكينة يدها في الطين تبحث فلم تجد شيئاً. . . وجعلت تبحث فلا تجد. . . ثم وقفت ذاهلة وعيناها تذرفان ما سال من حشاها