الرياض ويجلسون على الجداول ويسهرون في القمراء ويستمعون إلى شدو العصافير ويبتغون منازه الأرض في المواسم وأيام البطالة - هم محبون للطبيعة يشغفون بها كما يشغفون بالفرجة والاسترواح. وقد يشبههم في هذا بعض الأحياء التي تغرد على الشجر كلما آن الأوان أو تأوي إلى الظلال والأمواه كلما حنت إلى الراحة وبرد الهواء.
ولكن هذا هو الذوق الشائع كما قلنا، وليس هذا هو الذوق الخالق المحيي الذي يضيف من عنده شيئاً إلى شعور الناس بما يراه ويصفه ويحكيه
إنما صاحب الذوق الخالق المحيي هو الذي ينقل إليك إحساسه بالشيء القديم الموجود بين جميع الناس، فإذا بك كأنك تحسه أول مرة لما أودعه فيه من شعور وما أضفاه عليه من طرافة. فإذا وصف البحر أو السماء أو الصحراء أو الروضة فكأنما هو يجعلها بحره وسماءه وصحراءه وروضته لفرط ما مزج بينها وبين مزاجه وشعوره. وتسري إلى القارئ هذه الجدة فيرى هذه المناظر بعين غير التي كان يرى بها مألوفاته
ومن ذاك المعين الفياض نبع وصف الأقدمين للطبيعة ومحاسنها ومخاوفها فتمثلوها - لفرط شعورهم بها - عرائس وحوراً وأطيافاً وأرواحاً وبعثوها جنة وشياطين وأغوالا. لأنهم عاشوا فيها وعاشت فيهم فمزجوها بدمائهم ولم ينظروا إلى الطبيعة كأنهم ينظرون إلى (سجادة) منسقة الخيوط مزبرقة الألوان مريحة لمن يمشي فوقها أو ينام عليها كما يستريح العديد الأكبر من رواد الرياضة في منازه الخلاء
فالرياض - عند الشاعر من هؤلاء - والخمائل والجداول والأنهار والسماوات هي بعينها رياض زوار (المواسم والآحاد) وخمائلهم وجداولهم وأنهارهم وسماواتهم لا تزيد ولا تنقص. . . . وأن بيتاً واحداً كبيت البحتري الذي قاله في الربيع:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً ... من الحسن حتى كاد أن يتكلما
ليساوي كل ما نظم شاعرهم في ربيعياته وريحانياته: لأن الطلاقة والاختيال والبشاشة والحسن الذي يهم بالكلام هي علامات الربيع المبثوث في النفوس. وكل كلمة من هذه الكلمات تدل على النفس الحية التي تشاهد الربيع أكثر من دلالتها على الربيع الظاهر فيما يبدو للعيان أو على (السجادة) المزخرفة بالأصباغ والنقوش والدوائر والخطوط. . . ولو لم يكن البحتري قد أحس بشاشة الطلاقة وزهو الاختيال وفرح الحياة النامية ونجوى الحسن