وإذا أنا كتبت في هذا احتجت من الترقيع والتمويه، ومن التدليس والتغليط، ومن الخِبّ والمكر، ومن الكذب والبهتان - إلى مثل ما يحتاج إليه الزنديق والدهريُّ والمعطل في إقامة البرهانات على صحة مذهب عرف الناس جميعا أنه فاسد بالضرورة إذ كان معلوماً من الدين بالضرورة أنه فاسد. وأين ترى إلا في تلك النّحل وفي هذه الصحافة أن ينكر المتكلم وهو عارف أنه منكر، وأن يجترئ وهو موقن أنه مجترئ، ويكابر وهو واثق أنه يكابر؟ فقد ظهر تقدير من تقدير، وعمل من عمل، ومذهب من مذهب؛ والآفة أنهم لا يستعملون في الإقناع والجدل والمغالطة إلا الحقائق المؤكدة؛ يأخذونها إذا وجدت ويصنعونها إن لم توجد، إذ كان التأثير لا يتم إلا بجعل القارئ كالحالم يملكه الفكر ولا يملك هو منه شيئاً، ويلقى إليه ولا يمتنع، ويعطى ولا يرد على من أعطاه
قلت: ولكن ما هو الخبر الذي أرادوك على أن تجعل من ترابه دقيقاً أبيض؟
قال: هو بعينه ذلك الشأن الذي كتبت فيه لهذه الصحيفة نفسها، أنقضه وأسفهه وارد عليه وكان يومئذ جزءاً يتجزأ. . . فإن صنعت اليوم بلاغتي في تأييده وتزيينه والإشادة به، ولم يكن هذا كاسراً لي، ولا حائلا بيني وبين ذات نفسي - فلا أقل من أن يكون الجاحظ تكذيباً للجاحظ. آه لو وضع الرديو في غرف رؤساء التحرير ليسمع الناس. . .
قلت: يا أبا عثمان. هذا كقولك: لو وضع الرديو في غرف قواد الجيوش أو رؤساء الحكومات
قال: ليس هذا من هذا فإن للجيش معنى غير الحذق في تدبير المعاش والتكسب وجمع المال؛ وفي أسراره أسرار قوة الأمة وعمل قوتها؛ وللحكومة دخائل سياسية لا يحركها أن فلانا ارتفع وأن فلانا انخفض، ولا تصرّفها العشرة أكثر من الخمسة؛ وفي أسرارها أسرار وجود الأمة ونظام وجودها
قال أبو عثمان: وإنما نزل بصحافتنا دون منزلها أنها لا تجد الشعب القارئ المميز الصحيح القراءة الصحيح التمييز، ثم هي لا تريد أن تذهب أموالها في إيجاده وتنشئته. وعمل الصحافة من الشعب عمل التيار من السفن في تحريكها وتيسير مجراها، غير أن المضحك أن تيارنا يذهب مع سفينة ويرجع مع سفينة. . . ولو أن الصحافة العربية وجدت