للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وعرض ماكس نوردو مذهب تلستوي في العاطفة الجنسية؛ وله أن يفنده وأن يسخر منه، ولكن كان من تمام الحكمة والفلسفة والتفكير أن يعرض شرور الحلول الأخرى التي تحل بها معضلة العاطفة الجنسية لكي يفسر الحيرة التي أدت إلى هروب تلستوي منها، فإن حل معضلتها ليس طريقا ممهودا بالإسفلت والقطران كما حسب ماكس نوردو؛ وهو إن كان كذلك فهو أيضاً كثير الحفر والمهاوي، وهي التي أدت إلى ذلك الرأي الغريب الذي ارتآه تلستوي وجعله يطلب رفضها رفضاً باتا حتى في حالة الزواج؛ وهو في هذه الناحية أقل إيماناً بالنفس الإنسانية من ناقده، ولكن كان يجدر بناقده أن يبرز الشرور والآثام التي تكثر، سواء أكان حل معضلة العاطفة الجنسية بغلبة القيود والغيرة، أو بضعف القيود والغيرة أو بانعدامها كلها؛ فلعل تلستوي قد نظر طويلا إلى كل حالة من هذه الحالات؛ ولعل طول نظره في كل حالة هو الذي حيره ودعاه إلى رفض العاطفة الجنسية رفضا باتا. فالحيرة ليست دائما دليلا على كلال الذهن وقصر نظره وغموضه وانحطاطه؛ وهي تذكرني برجل جليل فاضل مفكر كان يجيد لعب الشطرنج ويفكر في كل تفكير يصح أن يفكر فيه الذي يلاعبه، فكان لا يفكر في لعبة إلا فكر في طريقة ضدها تهزمها فينتهي به الحال إلى أن يلعب أول لعبة تخطر على ذهن اللاعب وتستدعي سخر الناظرين وضحكهم

ونظر ماكس نوردو إلى موقف تلستوي من العلم، وكان ينبغي لو حاول الاتزان في النقد أن يفسر سبب الحيرة التي دفعت بتلستوي إلى رفض أكثره، وأن يميز بين حيرة الجاهل الغبي وبين حيرة الذكي التي هي أشبه بحيرة لاعب الشطرنج الذي وصفته، وأن يفرق بين خطأ الغافل الذي لا يفكر وخطأ المفكر الذي يحيره كثرة الفكر وتشعب مسالكه والتواؤها حتى يراها مثل حارات القاهرة القديمة التي ليس بها منفذ ولكنها حيرة لا تستدعي أن يتهم صاحبها بالانحطاط حتى ولو كان صاحبها مخطئاً، وإلا كان الإنسان حيوانا كثير الانحطاط، وكأن الانحطاط الذي يعنيه هو من النقص المحتوم في الطبيعة البشرية ولعل تلستوي قد قدر عواقب العلم الحديث في النظم الاقتصادية وفي النظم والمخترعات الحربية وهي عواقب أدت إلى كوارث الحرب العظمى وأهوالها، وإلى الأزمة الاقتصادية ومعضلاتها، وهي إلى الآن تهدد العالم بالخراب؛ فلا غرابة إذا أدركته الحيرة، ولا غرابة إذا أخطأ فلم يصب أحد بعد في حل تلك المعضلات. ولعل تلستوي قد فكر أيضاً فيما فكر

<<  <  ج:
ص:  >  >>