وعاد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فلم يلبث أن مرض
جزع الصحابة، وشغلهم مرضه عن أولادهم وأنفسهم، فكانوا لا يهنأون بمنام ولا يسيغون طعاماً، ولا يقبلون على عمل، ولا يرون وجه الدنيا قلقاً عليه صلى الله عليه وسلم، وكانوا يودون لو يفتدى بكل ما في الأرض من شيء ليفتدوه، وكانوا يسألون عنه في كل ساعة ولحظة، ويعلمون علمه. فلما قيل قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم طارت العقول، وخفت الأحلام، وزلزل الناس زلزالا شديداً، وأصابتهم حيرة وعراهم ذهول، فلم يدروا ما يصنعون، وكانت ساعة من يوم الحشر. ولا عجب فقد كانوا أمواتاً قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الرسول مطلع حياتهم، وأول دنياهم، فلم لا تكون وفاته خاتمة الحياة، وآخر الدنيا، وأن يكون يوم قبضه كيوم القيامة؟
وجزع عمر وهزت الرزية نفسه، وغلبه حبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يستطع أن يتصور أنه قد مات، ولم يقدر أن يتخيل الحياة بدونه، فهو أساسها ومصدرها، وهو شمسها المنيرة، وهل حياة من غير شمس؟ وهو روح هذا الكون، وهل يعيش جسم بلا روح؟ ولم يطق أن يسمع أنه قد مات، فوثب مخترطا سيفه، تنطقه عاطفته، وحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يمنع الناس أن يقولوا: مات رسول الله انه لم يمت ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى ابن عمران وقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم، والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات!
وكان أبو بكر رضي الله عنه غائباً في منزله في السُّخ، وكان أبو بكر العقل الثابت الذي لا تقلقله الحادثات ولا تحركه النوائب، وكان عمر يومئذ القلب الحساس الذي يفيض بالعاطفة وينبثق بالشعور، فلما قدم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله ثم خرج وعمر يتكلم، فاستنصته فلم ينصت، ومضى يتكلم، لا مخالفة لأبي بكر، ولكن الحس الذي طغى على نفسه، والحب الذي غمرها لم يدع فيها سبيلا لغيره. . حتى إذا تكلم أبو بكر فقال كلمته العظيمة:
أيها الناس: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا