للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أبصرته ذات يوم خارجا من الخباء إلى الخلاء متأبطاً سيفاً فسألها أحدهم (أين ثابت؟) فقالت: (لست أدري، لقد تأبط شرا وخرج) وهناك قول آخر بأنه قد خرج في بعض أموره فالتقى بغولٍ فشدّ عليه وجزّ رأسه ثم حمله إلى بيته على هذه الحال، فقيل له تأبط شرا. وإن الأبيات التالية التي يصور بها خاله شمس بن مالك لكفيلة بتصوير طبيعة الشاعر ونفسه تماما وهي انعكاس لعاداته:

قليلُ التَّشكي لِلْمهم يصيبُهُ ... كثيرُ الهوى شتى النَوَى والمسالك

يّظل بِمَوْمَاة ويمسي بغَيرها ... جَحيِشاً ويَعْرَوْرى ظُهور المهالِك

ويَسبْق وقْدَ الرِّيح من حيث ينتحي ... بمنْخَرقٍ مِنْ شده المتَدَارِك

إذا حاصَ عَيْنيِه الكرى النَّوْم لم يزل ... له كالئٍ مِنْ قلب شيَحْان فاتك

ويجعلُ عينيه ربيئة قلبه ... إلى سلةٍ من حدِّ أخلق صائِك

إذا هَزَّه في وجه قِرن تَهللتْ ... نوَاجذِ أفوَاهِ المنايا الضَّوَاحِكِ

يَرَى الوَحشة الأنس الأنيس ويهتدي ... بحيث اهتدت أمُّ النجوم الشوائك

وهذه الأبيات السالفة تصف في دقة وتلم كل الإلمام بالفضائل الأولية العربية من شجاعة وخشونة وبأس. وهنا نرى لزاما علينا أن ننتقل بالقارئ إلى ناحية بعيدة بعض الشيء عن الناحية الأدبية، تلك هي الناحية الخلقية التي تعد من الأسس المهمة التي قام عليها كيان المجتمع الوثني الذي ليس لدينا من مرجع عنه سوى الشعر الجاهلي. لم يكن للعرب قانون مكتوب أو مرجع ديني أو أي شيء من هذا القبيل، بل كان هناك ثمة قوة أجل من هذه وأعلى شأنا وأنفذ تأثيراً في نفوسهم، تلك هي (الشرف)، ولكن ما هي خصائص الشرف البارزة وميزاته الواضحة التي تنطوي عليها فضيلة المروءة كما كان يفهمها عرب الجاهلية؟ لقد أشرنا إلى أن شجاعة العرب تشبه تمام الشبه شجاعة الإغريق (يولدها ثوران النفس ولكنها تتلاشى إزاء الإبطاء أو التراخي ومن ثم كان البطل العربي رجل جلاد يقتحم الأهوال، ويزدري الأخطار، كثير الفخر كما يظهر لنا ذلك من معلقة عمرو بن كلثوم، وإذا رأى أن ليس لما يفوته بالهرب خطر عظيم أسرع غير مليم، ولكنه يحارب ويناضل حتى آخر رمق فيه ذابّا عن نسائه اللائي كنّ إذا جد الجد واشتبكت الرماح، صحبن القبيلة ووقفن خلف صفوف القتال:

<<  <  ج:
ص:  >  >>