أقول إن هذا ما يزعمه الزاعمون. وقد يكون هذا ما يزعم طه حسين نفسه إذا سألته عن سبب إعراضه الطويل. ولكن الحقيقة أعمق وأبعد غوراً من هذا كله: وقد خفيت حتى على المؤلف نفسه. ذلك أن طه حسين كان يحس - إحساساً مبعثه الإلهام الذي لا حول له فيه ولا قوة - أن شعر المتنبي متعة هائلة أولى به أن يدخرها، وأن يؤجل التمتع بها كما يترك المرء أطيب الثمار إلى آخر الوجبة، بادئاً بالفج الثقيل منها. قال لي بعض الناس مرة: هل رأيت إيقوسيا؟ قلت: لا! قال فإني أحسدك على هذا اشد الحسد. إني لأعطي كل ما عندي لكي أرى إيقوسيا للمرة الأولى!
ومن هذا الجامد البخيل الذي لا يعطي كل ما عنده لكي يدرس شعر المتنبي للمرة الأولى؟
ذلك هو السبب الحقيقي لهذا الإعراض الطويل؛ وكان لابد لصاحبه إذا سأله لماذا لا تعنى بدراسة المتنبي أن يجيبك بأعذار ينتحلها انتحالا، وإذا هو يصطنع خصومة بينه وبينه، وقد ينتهي به الأمر إلى تصديق هذه الأعذار والإيمان بأن تلك الخصومة المفتعلة تقوم على أساس أو شبه أساس.
إلى أن جاء الوقت، واستطاع المتنبي أن يرغم طه حسين على أن يسهر مع الساهرين من اجل شوارد شعره التي كان ينام عنها هو ملء جفنه. وأن يكب على دراسة المتنبي انكبابا عجيبا، وأن يقيم للمتنبي أسبوعا كان من أجل وأروع أسابيع الجامعة المصرية، وأن يصطحب المتنبي معه إلى أوربا، وأن ينزله معه في الباخرة وفي القطارات وفي مختلف الفنادق والديار!!
وهكذا اضطر طه حسين إلى أن يرى نفسه - على كره منه كما يقول - منصرفا إلى دراسة المتنبي، وأن يبادر إلى المتعة التي ادخرها لنفسه هذا الدهر الطويل، وأن يسلط على هذه الدراسة ما وهبه الله من ذكاء خصب، واطلاع واسع، وملاحظة دقيقة، وقدرة على استنباط الحقائق من ايسر المعلومات التي يمر بها الناس مرا دون أن يروها. . ثم استطاع بعد ذلك أن يصور لنا المتنبي، فإذا نحن نحسه وإذا نحن نلمسه، وإذا نحن نراه ماثلا أمامنا، وإذا نحن نسير وإياه جنبا إلى جنب، وإذا شخصية المتنبي تبرز لنا من وسط هذه الصفحات بروزا غير محاط بلبس ولا إبهام
وطه حسين الذي أبدع هذه الصورة يقول لنا مع إنه ليس من المعجبين بالمتنبي،