للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

المشغوفين بشخصه وفنه، ولكنه لحسن الحظ لا يطلب منا أن نصدق كلامه هذا بل يقول لنا إننا مخيرون في أن نرى أن هذا الكلام يصدر عن تفكير أو هذيان أو شذوذ وجموح (ص٧٠). . وأنا أفضل الرأي الأخير. . ومن الممكن للمصور البارع الذي أبدع الصورة وجلاها للناظرين أن يزعم أنه لا يحب صاحب هذه الصورة ولكنه لم يجد بين الناس من يصدقه

ليقل طه حسين إذن في علاقته الشخصية بالمتنبي ما يشاء. فإن القراء قد ظفروا منه على كل حال بكتاب ممتلئ حياة وقوة. ليس المتنبي فيه اسما يذكر وأشعارا تتلى وجدالا يسرد، بل شخصا حيا يسعى ويعمل، ويحس ويشعر، ونحن نشاركه كل هذه الحياة. واستطعنا بسبب هذا كله أن نزداد حبا للمتنبي وعطفا عليه. وهي نتيجة لم يكن المؤلف يريدها أو يفكر فيها. كذلك استطعنا أن نعجب بالمؤلف حين ينصف المتنبي، ويبرز الخفي من أركان هذه الحياة الثائرة العجيبة. واستطعنا أيضاً أن ننظر شزرا حين نرى المؤلف يحمل على المتنبي حملات أقل ما يقال عنها إنها لا تتفق مع ما يذكره المؤلف نفسه عن المتنبي حين يتناسى ما بينهما من الحزازات القديمة

ليس من الممكن هنا أن نعدد محاسن هذا الكتاب الذي قلما خدم شاعر في العربية كما خدم به أبو الطيب. وسيرى القارئ من غير مشقة كيف استطاع المؤلف أن يزيد لذتنا ومتعتنا بأشعار المتنبي أضعافا مضاعفة، فقصيدة مثل (وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه) ونحوها. أصبحنا بعد أن صورت لنا حياة المتنبي والظروف المعقدة التي أنشدت فيها تلك القصائد - نرى فيها حياة وقوة وعمقا لم نكن نحس له وجودا

ومع هذا - وبعد هذا كله - فالمتنبي مع طه حسين مظلوم. لأن طه حسين لم يستطع دائما أن ينسى ما بينه وبين المتنبي من خصام، بل يتذكر هذا الخصام أحيانا فيعود إلى ظلم المتنبي، ويمعن في التشنيع عليه. أنظر إليه حين يريد أن يوهمنا بأن المتنبي مداح كسائر المداحين وأنه ينكر نفسه كلما اقتضت منه المنفعة العاجلة إنكارها. ويريد منا أن نصدق هذا، وهو نفسه الذي يرينا في صراحة وجلاء كيف أعرض المتنبي عن مدح اسحق بن كيغلغ ولم يعبأ بتهديده ووعيده. مع أن المنفعة العاجلة كانت تقضي من غير شك بإنكار النفس وبذل المدح

<<  <  ج:
ص:  >  >>