ونحن نرى المتنبي لا يكتفي بهذا بل يهجوه هجاء مراً، ذلك لأن المتنبي كان غاضباً من هذا الرجل الذي أبى أن يقبل منه المدح فيما مضى، فجازاه المتنبي على إعراضه بأن أعرض عنه يوم أضحى شاعرا مشهوراً.
هذا كله لا يمكن أن يذكر للمتنبي إلا بالخير. فانظر كيف يصور لنا المؤلف هذا الحادث: (فلا تسل عن كبرياء الشاعر وما امتلأت به نفسه من الزهو والغرور، وإذا هو يمتنع على الأمير ويأبى أن يجيبه إلى المدح الذي رغبه فيه، ويحتال الأمير في ذلك فلا يوفق. وتشق عليه هذه الإهانة فيمسك الشاعر في طرابلس، ولا يخلي بينه وبين السفر، وإنما يمسكه سجيناً كالطليق، وطليقا كالسجين)
والمنطق السليم يقضي بأن مسلك أبي الطيب هذا ينطوي على كثير من العزة والشمم، ولا يدل مطلقاً على أنه يطلب العاجلة، فينكر نفسه. ولابد للمنصف أن يرى أن عبارة المؤلف في وصف ذلك الحادث قاصرة لم يمهلها الإنصاف، بل أن للحزازات القديمة أثراً فيها
وفي حياة أبي الطيب أمثلة من الوفاء والإخلاص، استطاع المؤلف أن يحولها إلى أمثلة من التزلف والخوف. انظر مثلا إلى الحادث الشهير يوم أن غضب أبو العشائر على أبي الطيب وأرسل غلمانه وراءه فرماه أحدهم بسهم وقال خذها وأنا غلام أبي العشائر. فأنشد أبو الطيب هذه الأبيات العجيبة الساحرة:
ومنتسب عندي إلى من أحبه ... وللنبل حولي من يديه حفيف
فهيج من شوقي وما من مذلة ... حننت ولكن الكريم ألوف
وكل وداد لا يدوم على الأذى ... دوام ودادي للحسين ضعيف
فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً ... فأفعاله اللائي سررن ألوف
ونفسي له - نفسي الفداء لنفسه، ... ولكن بعض المالكين عنيف
فإن كان يبغي قتلها يك قاتلا ... بكفيه فالقتل الشريف شريف
وليس هنا مجال لسرد الحادث كله، ولكن العجيب أن سرد المؤلف له يضع الذنب كله على المتنبي، لأنه أهمل مدح أبي العشائر وكأنه يلتمس العذر لهذا الرجل في غدره بأبي الطيب
لقد قرر المؤلف في نوبة من نوبات الظلم التي كانت تعاوده وهو يملي كتابه هذا: أن المتنبي (عبد للطمع والمال، لا للجمال والفن.) ولم يجد من الحوادث والأشعار مساعداً له