وانفض هذا المجلس، ولكن خاطراً ثقيلاً ألح علي وظل يدور في نفسي، ذلك أن كل من ألقاهم من إخواني يذكرون هذا النشاط. ولا يكتمون تعجبهم. فلم يسعني إلا أن أتعجب مثلهم وإلا أن أسائل نفسي:(أكان هذا يبدو لهم مني مستغرباً لو انهم كانوا يرونني شاباً في العشرين من عمري مثلاً؟ أتراهم يستغربون لأني في ظنهم خلفت شبابي ورائي فالمنتظر من مثلي في اعتقادهم هو الفتور. .) ولم يعجبني هذا التأويل فانه ثقيل على النفس، وآثرت أن أقول انهم هم معدومو النشاط ولذلك يتعجبون لي. ثم أني لا أحس إلا أنى مازلت شاباً. والعبرة بالإحساس لا بهذه الشعرات البيضاء التي يقول عنها ابن الرومي أنها تزيد ولا تبيد فهي مثل نار الحريق. . وما قيمة هذه الشعرات. . لقد ابيضت وأنا في العشرين من عمري، وكنت يومئذ بها فرحاً مزهواً، وكنت أعدها مظهراً للرجولة ومدعاة للاحترام، فماذا حدث حتى صرت حتى ابغضها. . أو لا ابغضها وإنما انظر إليها في المرآة فأزوم، وتقول شفتاي (هممممم). . ثم أني أراني اجلد من أبناء العشرين، واصبر على العناء والجهد، واقدر على العمل والحركة، واحسن تلقياً للحياة، وأسرع استجابة لدواعيها، فما قيمة هذا الذي تطالعني به المرايا؟. وما حاجتي أنا إلى المرايا؟. ومتى كنت انظر فيها حتى انظر فيها اليوم؟. كلا. . إن أمامي بإذن الله حياة طويلة، وليست الحياة أن أظل باقياً في الدنيا والسلام، وإنما هي أن أظل قادراً على العمل وكفؤاً للأعباء، وهذا ما اعتقد انه سيكون شأني فما اشعر بدبيب الفتور ولا أرى أية علامة على ابتداء النضوب.
وضحكت وأنا أقول ذلك فقد تذكرت أني قلت مرة لصاحب كان يحدثني في هذا الموضوع أو يسألني على الأصح (هل تعرف حكاية الذي أراد أن يتزوج بنت السلطان. . لقد زعموا أن رجلاً من الغوغاء زعم انه سيتزوج بنت السلطان، فلما سألوه كيف يتسنى له ذلك، قال أن المسألة بسيطة، فقد رضيت أنا بزواجها ولم يبق إلا أن يرضى السلطان. وكذلك أنا فقد عزمت أن أعيش إلى التسعين والمائة أيضاً وأنا موافق على ذلك وراض بهذه القسمة وليس باقياً إلا أن يمالئني الحظ ويساعفني القدر. . .)
ويتفق لي كثيراً أن أقف بالسيارة حيث يطيب لي الوقوف. ويسرني حين أفعل ذلك أن أنظر إلى الناس وهم يروحون ويغدون وأن أتأمل ما يكون مهم وكيف يمشون وكيف يتحدثون ويميل بعضهم على بعض وكيف يذهلون عما يكون أمامهم لأن ما هم فيه من