للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وقول المتنبي في معاصريه:

أفي كل يوم تحت ضبني شويعر ... ضعيف يقاويني، قصير يطاول؟

وكم جاهل بي وهو يجهل جهله ... ويجهل علمي أنه بي جاهل

وفي ذلك العصر الكلاسي الطويل أعرض الشعراء إعراضاً يكاد يكون تاماً عن الطبيعة وحديثها ومجاليها، وأقبلوا على حياة المدينة أي إقبال. وما منهم من له عمل أبعد من أن ينال النجاح فيما تهيئه لأبنائها من أسباب اللذة والمتعة والشهرة، فكان منهم طامح إلى الملك كالمتنبي والشريف الرضي، وحريص على الوزارة كالصاحب وابن العميد، وراغب في الولاية حظي بها كالطائي وقصر عنها كابن الرومي، ومغتبط بالحظرة والمنادمة كأبي العتاهية والبحتري، وغير هؤلاء وأولئك ممن سعوا سعيهم ولم ينالوا مثل شهرتهم؛ وممن طمحوا فيما هو دون ذلك من متعات الحياة. ونظير ذلك كله تراه في العصر الكلاسي الإنجليزي سالف الذكر: فقد تقلب دريدن بين الأحزاب وحرص على الحظوة في البلاط. وتدرج أديسون في المناصب حتى صار وزيراً للخارجية، ولم يقنع سويفت بما تولى من مناصب في الكنسية، وكان إخفاقه في مطامعه البعيدة أحد أسباب نقمته وتشاؤمه

وتجلت هذه الصفة الكلاسية في الأدب ذاته: حددت مواضيعه وقصرت على ما اتصل بالحاضر القريب من شؤون الحياة في المدينة، وأهملت المواضع الرومانسية الصبغة، كالالتفات إلى الماضي واستعراض حوادثه الطريفة واتخاذها مادة للنظم والنثر، ومعالجة خرافاته واستلهامها ما بها من معاني الجمال والعظمة والبطولة، وأهملت أحاديث الرحلات وأوصاف البلاد البعيدة والأصقاع المجهولة، ما وجد منها في الحقيقة وما يتخيله الشاعر، وكفكف الخيال ونبذت آثاره من عالم الأدب.

خلا الأدب العربي في ذلك العهد من كل هذه المواضيع، وهي من صميم الشعر ولباب الفن وجوهر الأدب إذا ما تحضر أهلوه وانتفعوا بالثقافة، وإنما تركت هذه المواضيع الجليلة للأدب العامي، فظل الأدب الفصيح أدباً كلاسياً وصار الأدب العامي هو الممثل للرومانسية

دام ذلك العصر الكلاسي الطويل في الأدب العربي طوال عهد ارتقاء الأدب، أي زهاء ثلاثة قرون، ثم طوال عهد انحطاطه أي إلى العصر الحديث، لم تعقبه خلال تلك الأجيال المتوالية نهضة رومانسية تخفف من غلوائه وتصلح من فساده، وتقيم ما اعوج من مبادئه

<<  <  ج:
ص:  >  >>