للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لعل فلسفة فقيدنا الكبير أظهر ما تكون في ملحمته الشهيرة (ثورة في الجحيم)، وهي تحفة فنية خالدة أثبت فيها آراءه الفلسفية ومعتقداته الدينية ونزعاته الإصلاحية، ولسنا نغالي إذ نقرر بأنها صورة حية صادقة للمبادئ السامية والمثل العليا التي وقف الزهاوي حياته على تحقيقها غير مكترث لما يعترض سبيله من العقبات، بل إن هذه العقبات ما كانت إلا لتزيد عزيمته مضاء وإيمانه إيماناُ بتلكم الرسالة المقدسة التي عمل على نشرها بين قومه.

وتتلخص هذه الرسالة في التحرر من التقاليد البالية والعادات الموروثة التي وقفت سداً منيعاً دون تقدم الشرق العربي فجعلته يرسف في أغلال من الأوهام وقيود من الأحلام، هي ثورة على القديم، وانتصار للجديد في مختلف نواحي الحياة. . . والثورة تتطلب الهدم. . والزهاوي كان ثائراً هداماً

ثورة الزهاوي في الجحيم: -

يتخيل شاعرنا نفسه ميتاً قد احتواه القبر وإذا بمنكر ونكير يوقظانه من رقاده البدي فيعود إليه شعوره ويشاهد أمامه نسرين هائلين تتطاير النار من عيونهما وتبدو ملامح الشرَّة على وجهيهما. لكل منهما أنف غليظ وفم واسع وبأيديهما أفاع غلاظ تتلوى وتدور

فيخور عزمه وتهن قواه ثم ما يلبث أن يستعيد جرأته، ويتمالك جأشه ويجيب على الأسئلة التي كان يوجهها إليه الملكان، فيعترف بأنه لم يأت في حياته أمراً خطيراً فقد مارس الشعر دفاعاً عن الحق وهو يفتخر بأنه كان يخالف جمهرة الناس في الرأي والمعتقد فيثير عليه نقمتهم فيمعنون في ازدرائه واضطهاده حتى إنهم ليهمون مرة بقتله. مع أنه كان يعتقد بالوحي، ويؤمن بالأنبياء والمرسلين ويقوم بما يعرضه الإسلام على المؤمنين من صلاة وصوم وزكاة وحج وجهاد

ثم يسأله أحد الملكين عن الحشر والميزان والحساب والصراط والجنان والجحيم، فيجيبه الزهاوي بأنه كان في شبابه مؤمناً كل الإيمان فإذا بالشكوك تهب تلاحيه فيتعمق في العقائد إلا نفسه لا تزال مضطربة حائرة، فهو تارة مؤمن، وهو تارة ملحد، وهو يخشى الجحيم ولجج النار، ويرجو من الله أن يرفق بعباده فإنهم ضعاف لا حول لهم ولا صبر على العذاب.

وهو يبدي ارتيابه في كل ما عجز العقل عن تأويله إلا أنه لا يشك مطلقاً بوجود الله فهو

<<  <  ج:
ص:  >  >>