كذا العاهة يدفعه النفور من ذلة الضعف إلى الإفراط في العسف والتجبر.
فالزهاوي الجريء بطبعه، الطموح باستعداده، تثقف بهذه الثقافة، ثم تنفست على أعصابه الشاعرة أمواج العروبة ترسلها على بغداد الصحارى الملهمة؛ ثم نزعه عرق العم والخال من الكردية فجاهد وجالد وغامر؛ والكرد كالعرب إن لم يكونوا من العرب؛ ثم ابتلى وهو في الخامسة والعشرين من عمره بداء في النخاع الشوكي لازمه بقية حياته، ورما بعد ذلك بالشلل في رجله فبرم واكتأب وتشاءم؛ ثم مني من عصره بفساد السلطان واستطالة الجهل وانحلال الخلق، فدفعته هذه العوامل كلها إلى موقف المصلحين من الإنذار والتضحية.
رأى وهو في الأستانة عبد الحميد يلقي الأحرار مغلولين في غيابة السجن أو في قاع البحر فأرسل إليه مع رسبوتينة أبي الهدى قصيدة منها:
أيأمر ظل الله في أرضه بما ... نهى الله عنه والرسول المبجل
فيفقر ذا مال وينفى مبرأ ... ويسجن مظلوماً ويسبى ويقتل
تمهل قليلا لا تغظ أمة إذا ... تحرك فيها الغيضل لا تتمهل
وأيديك إن طالت فلا تختر بها=فإن يد الأيام منها أطول
فسجنه حيناً ثم نفاه.
وسمع وهو عضو في (مجلس المبعوثان) عن بغداد مقرر الميزانية يذكر في وزارة الحربية مبلغاً جسيما من المال جعلوه لقراءة البخاري في الأسطول. فقال: أنا أفهم أن يكون هذا المبلغ في ميزانية الاوقاف، أما في الحربية فالمفهوم أن الأسطول يمشي بالبخار لا بالبخاري. فثار عليه المجلس وشغب عليه العامة.
ورأى ما تعانيه المرأة من عنت الاستعباد والاستبداد والجهل، فهب لإيقاظها ونصرتها، حتى كتب في (المؤيد) مقاله المشهور: (المرأة والدفاع عنها) فزلزل الناس في بغداد وفي غير بغداد، فسعوا به إلى ولاة الأمر ليعزلوه، وحرشوا عليه دهماء الشعب ليقتلوه، فاضطر إلى لزوم داره.
ونظم في أعقاب عمره (ثورة في الجحيم) ففزع المتزمتون من شرها إلى الملك فيصل؛ فلما كلمه في ذلك قال: ماذا اصنع يا مولاي؟ عجزت عن إضرام الثورة في الأرض فأضرمتها في السماء!