التي غدت مضرب المثل في الوفاء بين النساء فكيهة وأم جميل، أما عن فكيهة فيروى أن السليك بن السلكة أغار على بني عوار (بطن من بطون مالك) فلم يظفر منهم بفائدة، وأرادوا مساورته فقال شيخ منهم (إذا عدا لم يتعلق به شئ، فدعوه حتى يرد الماء فإذا شرب ثقل ولم يستطع العدو وظفرتم به) فأمهلوه حتى شرب ثم بادروه، فلما علم أنه مأخوذ جاملهم وقصد لأدنى بيوتهم حتى ولج على امرأة منهم وهي فكيهة فاستجار بها فمنعته وجعلته تحت درعها واخترطت السيف وقامت دونه، فكاثروها فكشفت خمارها عن شعرها وصاحت بأخواتها فجاءوا ودافعوا عنها حتى نجى من القتل ولولا ضيق المقام لكان من أمتع البحوث أن نسرد تفاصيل أوفى عن القصص التي وردت في ذكر نبيلات النساء في الجاهلية، ولقد صورت شعورهن المرهف بالشرف والوفاء، ولكن لعليّ أكون قد وفقت في اختيار أمثلة تصور الشرف العريق والذكاء الحاد والعاطفة العنيفة. وكان الكثيرات منهن ينظمن الشعر الذي ينشد في المآتم ويصغنه قلائد في رثاء موتاهن، ومن أسطع البراهين على سمو أخلاق المرأة في الجاهلية ورفعة نفسها أن ترى أم البطل وأخواته يقضين على أنفسهن بملازمة الحزن عليه والإشادة بمحامده.
أما مدح العاشق لمحبوبته فكانت له لهجة أخرى، وذلك أن القصيدة لا تدع ناحية من نواحي المحاسن الجثمانية إلا وتصفها وصفا شاملا، وقل أن نجد اهتمام أو تقديراً للجمال الخُلقي، ولا يشذ عن هذا سوى مطلع قصيدة للشنفري، أما سير شارلز ليبل الذي يهم كل مشتغل بالأدب العربي التعرف إلى رأيه لعطفه على الشعر العربي القديم ودقته في نقل صوره، فيقول عنها (إن هذه القصيدة أمتع صورة ترسم لنا الأنوثة التي خلفتها لنا الوثنية العربية، وقد رسمتها نفس اليد التي خطت اللامية المنقطعة النظير، وأدت خلالها المثل الأعلى لقوة الرجولة وصلابة البطولة)
لقد أعجَبَتني لا سَقوطاً قِناعُها ... إذا ما مشَت ولا بِذاتِ تَلَفُّتِ
تبِيتُ بُعَيدَ النومْ تهدِي غَبوقَها ... لِجارتِها إذا الهَدِيَّة قَلَّتِ
يَحُل بِمَنجَاةِ منَ اللوم بَيتُها ... إذا ما بُيُوت بالمَذمّةِ حَلَّتِ
أمَيْمَة لا يُجزى نَثاها حَليلها ... إذا ذكرَ النِّسوانْ عَفَّتْ وَجَلَّتِ
إذا هُوَ أمسى آبَ قُرَّة عَينه ... مَآبِ السَّعيد لم يَسل أينَ ظلتِ