للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

صاحبنا كل مسعفة من حسن الأداة وبراعة الحبك، وتخلت عنه فجأة شياطين الأكاذيب التي اعتادت أن تواتيه بالهام كلما استلهمها، وفزع إليها.

والحق أن تلك الشياطين كانت أطوع له من بنانه، فلم تكن تشعر أن هناك فترة تمضي بين ضراعته إليها في أحرج مواقفه وبين استجابتها لضراعته، حتى لتكاد تعتقد أنها كانت تلازمه أينما أرتحل، متحفزة لكل نداء، متأهبة لكل تلبية.

وإن أعجب من شئ، فليس ببالغ عجبي من هؤلاء العباقر، ومن اجتماعها على خدمة هذا الرأس الصغير المستدير، ومن مقدرتها على تأليف الصور من الشتات المتنافر، وتركيب الأخيلة من الحطام المتناكر، ثم من عجزها وتخليها فجأة عن النهوض بأعباء المهمة التي أرسلت إليها، حين تهبط ملائكة الحق لتنقذ الموقف. . . فيتعذر إذن أن يجتمع ملاك وشيطان.

فإذا انجابت عن صاحبنا شياطين أكاذيبه، دق موقفه، وتحرج، فمال على محدثه يلتمس عنده المعذرة عن هذا الموقف المتجرد، لا بالقول بعبارة الأسف المألوفة، بل بالانضمام إلى محدثه دفعة واحدة، ومشايعته في رأيه، وفي منطقه، وفي حملته على هذه الأكاذيب الصريحة! حتى لكأنهما يحملان معاً على شخص ثالث!!

فإذا التفتّ إليه التفاتة ذات معنى، تقلص وقطب، ثم هش بغتة، واحمر، ثم غاض الدم من وجهه، وتهدلت شفته السفلى وغمغم، فإذا دققت، فهمت أنه يريد أن يقول ما مؤداه: (وماذا عليّ؟ إني ألفت الكذب ينجي في كثير من المآزق) وهذه هي خلاصة فلسفته التي يصارحك بها في الوقت المناسب.

تردد يوماً ما في قضاء إجازة قصيرة بين بلدته وبين القاهرة.

اعتزم أن يزور بلدته لأن فترة طويلة مضت دون أن يرى أهله وذويه.

واعتزم أن يزور القاهرة لأنه مل حياة الريف الرتيبة المملة، وتاق إلى حياة القاهرة الصاخبة بما تستحدث كل يوم من صنوف المسليات، وأراد أن (يشعر بالحياة) على حد تعبيره.

فلما أعتزم السفر إلى بلدته، كلف بأمر من الأمور التي تمت إلى حياة القرى بصلة.

فلما اعتزم السفر إلى القاهرة كلف من صديق له بأمر من الأمور التي لا يسهل قضاؤها

<<  <  ج:
ص:  >  >>