ومن خصائص هذا الكاتب أنه يملك ناصيته الحاسة الأدبية فيما يكتب، ولو أنه قليل الاستعارات والمحسنات، فإنه يرى الأشياء في دقائقها وجملتها كالمتفنن متأثرا بمفاتنها، مستغنياً عن التصريح بالتلميح وعن العبارة بالإشارة حتى يوحي إليك بالمعاني إيحاء، يصف لك ما رأى وما سمع ولكن لا يريد الوصف للوصف وإنما لإماطة اللثام عن جانب من جوانب نفسية الناس أو يبن خبيثة من خبايا الجماعة لأن الإنسان لا يعنيه إلا الإنسان، وإن غضب أو رضى استرسل في الأسلوب الخطابي الفياض وتدفقت لعناته ومسراته كنهر زخار، أقرأ مثلا (عيد الحرية في باريس) و (أخلاق الناس) و (بين العقل والهوى) تر صدق ما أقول واكثر ما تتجلى فيه هذه الروح الأدبية حين يتناول الشعر بالتحليل والتعليل فإذا تحدث عنه ذوقك إياه تذويق الخبير، وبصرك بروعته تبصير العارف البصير، كأنما تلبس نفس الشاعر ثم عرفك بالصحيح منه والمزيوف كالصيرف الماهر، اقرأ في الكتاب (نقد ديوان شوقي) ثم قصائد المديح في الأدب العربي توقن بما قدمت إيقانا تاما فلا أحد حبذ إليّ الشعر العربي وقد كنت منه نافرا إلا هذا النقاد الحاذق.
ثم يمتاز هذا الكاتب بالصدق والصراحة حيث تمثله كتاباته كل التمثيل وتشف عن عقيلته كما يشف الثوب الرقيق عن الجسم الرشيق، تنم سطوره عن نزوعه إلى القديم القويم الجدير بالرعاية وتشى بمسايرته لعصره، ويشيع فيها الروح الديني الصوفي فهو حين يصور لك سحر باريس وفتنة باريس يصورها في لهف وشوق كمتعبد ربي على الحشمة والوقار وكبت النفس الأمارة بالسوء ثم إذا هو قد لان ووهن وبروعة الجمال افتتن فذهب عقله شعاعا وانتفى وقاره ضياعا، ولعل ما تميز به من وضوح الأسلوب والجلاء ناشئ من الصراحة المتناهية لأن من أسباب الغموض والاستغلاق ميل الكاتب إلى المداراة والتعمية والتنكر، ومن هنا كانت شخصيته قوية عصية على التقليد والفناء في غيرها، فهو لم يتأثر بأحد ممن لازمهم وأخذ عنهم لا في نمط التفكير ولا في طراز التعبير.
ربما ساءلت نفسك مرة أن عددت الجهل مزريا بك: لماذا اقرأ؟ فأنت تقرأ للهو والتسلية ونفي الملال إن كنت من أهل الفراغ ثم لتسر من مصادفتك لما يشبه ما يجول في خاطرك من المعاني ومن لقائك من يشاطرك في مشاعرك ثم لتصلح ما اعوج وفسد من أفكارك