من أنواع الحياة. ولبثنا نضرب في تلك البيداء حتى أدركنا الظهر - ولكنا على كل حال كنا نسمر بمختلف الأحاديث - وكان الذين سبقونا إلى ارتياد هذا الطريق لا يضنون علينا بشرح ما يعرفونه من معالم، وأحياناً أيضاً بشرح ما لا يعرفون استجابة منهم لنداء تلك الغريزة العجيبة التي ركبت في كل نفس والتي تجعل صاحبها يلتذ أن يتظاهر بالعلم أمام من لا يعلم!
وكانت سيارة الإيطالي في مقدمة الركب. وقد قبع الدليل البدوي على مقدمها ليلجأ إليه صاحبه كلما أعوزته المشورة في أمر الطريق. وفي النهاية لاحت لنا أشجار (الطرفاء) التي تزين (وادي الغَرَنْدَل) وهو واد واسع يكثر فيه النخيل ولا ينقطع منه الماء طول العام. وبدأنا نرى الناس من جديد بعد أن كنا نظن أننا انقطعنا عن العالم - ولكن يا لهم من ناس!. . . لقد كانوا أشباحاً في أثمال. . . أجسام رقيقة مديدة ضمرها الجوع. وعيون فاترة غائرة أطفأها الفقر والجدب. كانوا يحيطون بنا ويعدون إلى جانبنا ويلاحقوننا كما كانت تفعل جنادب الوادي الذي يعيشون فيه. أما سياراتنا فكانت عند اجتيازها لهذا الوادي تجري فوق مياهه. إذ لم يكن أمامنا طريق أخرى غير بطنه، فكانت أشبه بالزوارق البخارية منها بالسيارات. ولقد عانينا كثيراً ونحن نجتاز هذه المرحلة من طريقنا لأن الماء كان يتسرب إلى داخل آلات السيارة كلما أدركنا مخاضة بعيدة الغور نوعاً ما. وكان الويل للسيارة التي يصيبها ذلك، لأن الركب ما كان ليقف لأمثال تلك الأحداث، فكانت السيارة المتخلفة تقاسي كثيراً قبل أن تلحق بالقافلة وتمسك معها بطرف الطريق. وتكررت حوادث فقد الطريق ونحن بالوادي، ذلك لأن الطرق فيه متشعبة فكان المتخلف عرضة لأن يتبع آثار عجلات غير عجلات سياراتنا كلما غابت عن نظره بقية القافلة. وكم وقفنا وأطلقنا أبواقنا ليهتدي على صوتها من نفتقده من الزملاء. وكم كررنا نحن راجعين في مسلك وعر كنا قد تشهدنا عندما اجتزناه، فلما فرغنا منه وجدنا أننا قد ضللنا الطريق.
وأخيراً خرجنا من هذا الوادي وعدنا إلى الصحراء من جديد ولكنها كانت في هذه المرة صحراء نافرة صخرية يكتنفها جبل عظيم أبيض اللون ناصعه تجوس في سفحه عربات صغيرة وتدب معها نمال بشرية تتراءى من بعيد كأنها بعض هوام الجبل أو زواحفه. وسألت فعلمت أن شركة إيطالية قد حصلت من الحكومة على امتياز لاستغلال هذا الجبل