ولا تقف أهمية الرواية الكنسية عند ذلك الحد؛ ففي بعض الأحيان، وفي عصور السكينة والسلام، تغدو الرواية الكنسية مصدراً قيماً لاستعراض الحوادث التي تعنى بها. وفي القسم الأخير من مجموعة (سير البيعة المقدسة) يبدو الكاتب مؤرخاً لا غبار عليه، ويتبسط في شرح الحوادث والشؤون العامة في أواخر الدولة الأيوبية، ويقدم إلينا عنها رواية لا بأس بها
ونرى أن نشير بهذه المناسبة إلى أنه توجد إلى جانب هذه الروايات الكنسية التي تعنى بناحية خاصة من تاريخ مصر الإسلامية لم تعطها الرواية الإسلامية دائما حقها من العناية، طائفة من الروايات النصرانية، التي تتبوأ مكانها الحق بين مصادر التاريخ الإسلامي؛ فلدينا مثلاً تاريخ سعيد بن بطريق - بطريرك الإسكندرية الذي يصل في كتابته حتى سنة ٣٢٦هـ، وتاريخ يحيى بن سعيد الانطاكي الطبيب والمؤرخ، وقد كتبه ذيلا على تاريخ ابن بطريق، ووصل في كتابته حتى أواخر عهد الظاهر لإعزاز دين الله الفاطمي، وعنى فيه عناية خاصة بأخبار الحاكم وشخصه وحوادث عصره، وتاريخ المكين ابن العميد المسمى بتاريخ المسلمين الذي يستعرض فيه أخبار الخلافة والسلطنة حتى أواخر القرن السادس الهجري؛ وتاريخ ابن العبري المسمى بمختصر تاريخ الدول الذي يصل فيه برواية حتى أواخر عصره أعني إلى أواخر القرن السابع، فهذه الآثار التي كتبها كتاب ومؤرخون من النصارى، وإن كانت تميل في معظم الأحيان إلى أن تخص أخبار الكنيسة والمجتمع انصراني بأعظم قسط من عنايتها، تحتفظ دائما بقيمتها كمصادر لتواريخ العصور التي عنيت بها. وتمتاز هذه الآثار بميزة خاصة، هي أنها تعنى عناية فائقة بتاريخ الدولة البيزنطية باعتبارها حامية الكنيسة الشرقية، وتفيض في تتبع أخبارها وعلائقها بالأمم الإسلامية إفاضة دقيقة ممتعة، وهذه ناحية لم تخصها الرواية الإسلامية دائما بما يجب من عناية، بل هي تعتمد غالبا في تناولها على هذه الروايات النصرانية، مثال ذلك أن ابن خلدون يعتمد على ابن العميد في معظم ما كتبه عن أخبار الدولة الرومانية والدولة الشرقية (البيزنطية)، ويرجع السر في ذلك إلى أن أغلب الكتاب النصارى كانوا يعرفون السريانية واليونانية واللاتينية أحياناً، ومن ثم كان اتصالهم بالمراجع الأجنبية وانتفاعهم بها.