للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والنواسي فرسي رهان. وهو الذي يشير إلى ذلك بقوله:

إذا هلكت فخطوا ... جنب النواسي قبري

إني أمت إليه ... وإن تأخر عصري

على أنه يختلف بعد ذلك عن أبي نواس في ميله من الدعابة والعبث إلى الفلسفة والحكمة، فهو يغوص وراءها في كل لجة ويأتي بها بكراً لم تقع العين على مثلها، وهو بذلك يقتفي خطى المعري، وبذلك يقول:

إني تتلمذت في بيتي عليك وإن ... أبلت عظامك أزمان وأزمان

وهو يقتفي أيضاً خطى الشاعر الخيمي لا في مجونه وإنما في حكمته وشكه ويقينه، وحسبك أنه عمد إلى رباعياته فترجمها إلى العربية نظماً

واشتقت مرة أن أحادث الشيخ الفيلسوف وأتعرف به قبل أن تختطفه المنون فلما اجتمعت به أبصرت أمامي هيكلاً من الأعصاب الثائرة يكسوها جلد مجعد، ورأيته يرجحن فوق ساقين هزيلتين ما تنفكان تضطربان من الشلل

وقد أحاول أن أسعي فتمنعني ... رجل رمتها يد الأقدار بالشلل

فهو ينتفض بين الآونة والآونة فيتجهم وجهه ثم تنبسط أساريره ويتمتم قائلاً: أعصابي! ثم ينصرف إلى محدثه فيما كان فيه، وأذكر أنني ما كدت بدأه بالتحية حتى قال لي:

(يا بني تسمع بالمعيدي خير من أن تراه)

ثم لم يلبث أن قرأ لنا قصيدته (إحساساتي) فاجتمعت حوله حلقة كبيرة من مريديه والمعجبين به وقفى ذلك بنكات بارعة وروى لنا أنه قرأ بين يدي جلالة الملك الراحل (ثورته في الجحيم) ومازال بين نكتة وارتجاجة حتى انتصف النهار فودعنا وامتطى (عربانته) إلى داره. ومرت أيام فنعي إلينا الشيخ ووقع ما كنا نخشاه.

مات الشيخ ولكن السبيل الذي كان يدعو إليه هانت صعابه وتطامنت وهاده

وبالرغم مما كانوا يتهمونه به من مروق في الدين فقد قال:

عبدتك لا أدري ولا أحد درى ... أسرك أم صدر الطبيعة أوسع

عبدت اسمك المحمود في الليل والضحى ... إذا الشمس تستخفي إذا الشمس تطلع

فأيقنت أن الكون بالله قائم ... وأنك نور والحقيقة برقع

<<  <  ج:
ص:  >  >>