الأمير والمتغلب الذي يحكم الدولة، وما يلحق بها من الخلال الحسنة أو السيئة، وما يعرض لها من وسائل الحكم. وهذه الدراسة المحدودة المدى تكون جزءاً صغيراً فقط من دراسة ابن خلدون الشاسعة، وهو الفصل الثالث من الكتاب الأول من المقدمة، وهو الذي يدرس فيه أحوال الدولة العامة والملك والمراتب السلطانية. وحتى في هذا المدى المحدود يتفوق ابن خلدون على ميكافيللي تفوقاً عظيماً. ويبتدع هنا نظرية العصبية، ونظرية إعمار الدول، ويتناول خواص الدولة من الناحية الاجتماعية وإن كان ميكافيللي من جهة أخرى يتفوق على ابن خلدون في سلاسة المنطق، ودقة العرض والتدليل، ورواء الأسلوب.
كتب ميكافيللي كتابه (الأمير) سنة ١٥١٣ وأهداه إلى لورنزو دى مديتشي (الأفخم) أمير فلورنسا، وهو يشير إلى غرضه من وضع كتابه في قوله للأمير في خطاب الإهداء:(ومع أني أعتبر هذا المؤلف غير خليق بمطالعة محياك، فإني اعتمد جل الاعتماد على عطفك ورقتك في قبوله، فلست أستطيع في إهدائك خيراً من أن اقدم إليك فرصة لتفهم في أقصر الأوقات كل ما عرفته خلال أعوام طويلة، وفي غمار من المتاعب والأخطار) وفي قوله: (فتناول يا ذا الفخامة هذه الهدية الصغيرة بنفس الروح الذي أرسلها به، وإنك إذا قرأته بإمعان وتأمل، فسوف تعرض خالص رغبتي في أن تظفر بهذه العظمة التي يمنى بها حسن الطالع وتمنى بها خلالك) وإذن فقد أراد ميكافيللي أن يقدم كتابه (الأمير) مرشداً لأمراء عصره يرشدهم إلى أمثل طرق الحكم، وأمثل الوسائل لسيادة الشعوب التي يحكمونها. وميكافيللي يستمد آراءه ونظرياته من حوادث التاريخ القديم. وبالأخص من حوادث عصره التي شهدها وخبرها. ويرتب عليها أحكاماً وقواعد عامة، كما يرتب ابن خلدون مثل هذه الأحكام والقواعد على دراسته للمجتمع. ويبسط ميكافيللي دراسته في بحوث موجزة ويبدأ بالحديث عن أنواع الإمارات، ووسائل اكتسابها، وعن الوسائل التي تحكم بها المدن أو الإمارات التي كانت تعيش في ظل قوانينها قبل أن تغلب، وعن الإمارات التي تقوم بالفتح وكفايات الأمير الشخصية، وعن تلك التي تغنم على يد آخرين أبطرق الحظ، أو تلك التي تغنم بالغدر والخيانة. وعن الإمارات المدنية والدينية، وعن أنواع الجيوش والجنود المرتزقة، وما يجب أن يعرفه الأمير عن فن الحرب. ثم يتناول بعد ذلك شخصية الأمير، وما يحمد فيه من الخلال وما يذم، وعن الكرم والشح، والرأفة