إن صح هذا الكلام فإني أستطيع القول إن النبي أو الرسول لا يصل إلى الحق متجرداً عن شخصيته، بل إنه لا يستطيع الدنو من الحق إلا عن طريق شخصيته. كذلك فعل النبي العربي، وكذلك فعل المسيح وموسى. وكذلك كل نبي لا يستطع أن يرى الحق إلا عن طريق إحساسه وطبعه وعقله، وهي ملكات تختلف باختلاف الأشخاص. وهنا يبدو سر تباين الأساليب التي جرت عليها الأديان في عرض جوهر الحق على الناس. ولعل محمداً هو أكثر الأنبياء حرصاً على تنبيه الناس في كل مناسبة إلى وجود شخصيته المستقلة، فهو لا يفتر يذكرهم أنه بشر خاضع للقوانين التي يخضع لها البشر، وأنه لا يتصل بالله هذا الاتصال الخاص الذي قصر على الرسل إلا إذ يشاء الله. وأنه في كثير من حياته الخاصة أو العامة حيث لا وحي يهديه السبيل، يتصرف كما يتصرف البشر. هكذا فعل في معارك بدر وأحد والخندق إذ كان يستمع إلى مشورة أصحاب الرأي من رجاله. وهكذا فعل إذ لم يخف ميله إلى الطيب والنساء. بل إنه أعلن ذلك الميل لعلمه أن الميول من مميزات الطبع التي ركبها الخالق في البشر. والنبي الحق أجل من أن يكتم مزاجاً أو طبعاً، وهو يعرف أن المزاج والطبع من مقومات الشخصية.
وهنا تبدو حكمة الإسلام ظاهرة بين سائر الأديان. فهو دين بسيط فطري لم تدخله صناعة. كل شيء فيه صادق خالص صاف، ليس فيه إنكار لقوانين الطبيعة، بل فيه مسايرة حكيمة ومصاحبة رشيدة لكل ما فرضه النظام العلوي على البشر من حيث تركيبهم المادي والمعنوي. ذلك أن أسلوب محمد في إدراك (الحق) كان أسلوباً مستقيما. فهو قد أدرك أن (معنى) الحق إنما هو (السبب) الذي يصدر عنه الناموس الأكبر، وأن روح الوجود هو (النظام) إذ لا يتصور أن تكون (الفوضى) من عناصر الخليقة. بل أن (الفوضى) إذا حلت في نظام الوجود انقلبت نظاماً، لأنه لا وجود بلا نظام؛ بل إن كلمة (الفوضى) لا محل لها إلا في أدمغة البشر يعبرون بها عن كل ما يحدث شيئا من الخلل في ترتيب حياتهم الضيقة المحدودة. أما الكون غير المتناهي فلا يعرف غير النظام، هذا النظام الذي فرض على الإنسان والحيوان والجماد. هل من سبيل إلى مخالفته؟ إن مخالفة النظام الطبيعي للإنسان والأشياء مخالفة لله؛ وكل دين يقف في وجه النظم الطبيعية لا يمكن أن يكون من عند الله،