للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وكانت هي في ثورتها هذه تقذف بنظراتها إليه كالسهام النافذة، وكان صدرها يعلو ويهبط في هياجها، وشعرها الطويل الاسحم يضطرب بعضه فوق كتفيها وبعض على صدرها أو جوانب جسمها

ودهش سلاميش من قولها ولم تفته فصاحة في لفظها ولا رخامة في صوتها، ولكنه لم يجب بكلمة، بل رفع حاجبيه وانثنى راجعا إلى خيمته يسير في بطء ويثور به شيء يشبه الحزن

وأرسل إلى الشيخ الفقيه يستحضره، وأتى إليه فجعل يسأله عن المدينة وأهلها، وعن تلك الفتاة وبيتها، فلقد كان ذلك الفقيه من أهل المدينة قبل الفتح يعيش بين أهلها ويعاشرهم ويخالطهم، فعلم منه أن تلك الفتاة بنت أكبر أغنياء إنطاكية، وأن أباها كان شديد الولع بتثقيفها، وأنها قرأت أدب العرب كما قرأت أدب الفرس، وكان لها أخ قتل في أثناء الحصار، ومات أبوها يوم الفتح، وكان يدعو قومه إلى المصالحة قبل أن تفتح المدينة عنوة، وأراد أن يحمل قومه على تدارك الأمر قبل انفراطه فاتهموه بالجبن، وصاحوا في وجهه، أنه آثر السلامة، فحملته الحفيظة مع كبر سنه على الركوب في وجه الجيش الفاتح، ومات عند أبواب المدينة تحت سنابك الجيش الظافر

وسمع سلاميش تلك القصة فأفلتت منه زفرة لم يستطع كتمانها، وبات الليلة والأحلام تتخل نومه حتى لاح الفجر، فصحا وهو مضطرب النفس قلق البال

ولكن أعمال اليوم لم تترك له متسعا للتفكير في القناة ولا في همومها، وكان كلما تذكر كلماتها له نازعته نفسه إلى القسوة عليها، ثم لا يلبث أن يلين، وتعاوده رحمته. حتى إذا انقضى اليوم وعاد في المساء إلى خيمته رأى نفسه يسير نحو مكانها، وتقرب إليها وهو يتردد ويترفق ثم وقف إلى جوارها هنيهة وقال بصوت خفيض:

(لعلك اليوم أهدأ مما كنت بالأمس)

فلم ترفع إليه بصرها، بل بقيت جالسة، ورأسها بين كفيها

والتفت إلى خوان بالقرب منها، فرأى عليه طعاما يمسس. فقال وهو يتكلف الهدوء والجفاء: (وهل تريدين أن تموتي جوعا؟)

فلم تجب على قوله، بل حاولت كتم نحيبها.

فقرب منها، وحاول أن يضع يده على رأسها ليرفعه وهو محترس متلطف، ولكنه ما كاد

<<  <  ج:
ص:  >  >>