رأى شابة نحيلة ممشوقة فارعة، بوجهها صفرة قد غطتها حمرة، وفي عينيها حلاوة قد غشيتها صرامة، وهي تنظر إلى الجنديين مرفوعة الرأس كأنها تزهى، جامدة العينين كأنها تتحدى. وقد تمز ثوبها وتلوث من آثار الوسخ والدماء، لا يكاد يستر من جسمها إلا ما يستر ظل أوراق الشجر من صفحة الجدول.
وقد انسدل على كتفيها غطاء من شعرها الفاحم وهو يلمه في ضوء الشمس الغاربة. فدخلت الرحمة قلبه برغمه، وتمهدت عبسته ولانت نظرته وأشار إلى جنوده بالكف عنها، ثم نزل إليها وأخذ بذراعها فأسلست له وسارت معه حتى اقترب من شيخ فقيه كان في صحبة الجيش وأمره أن يترفق بها حتى تذهب إلى خيمته. ثم عاد وقد أطرق قليلا حتى علا صهوة جواده. ثم ركض إلى حيث ترك جنوده واستعاد نظرته وعبسته. وألقى إليهم الأمر بالمسير وقضى سائر اليوم في شغل من أمر جيش حتى أوغل الليل وعلا البدر وحان وقت العودة فآب إلى سرادقه.
وتذكر الفتاة التي كانت أعمال اليوم قد أنسته ذكراها، فأمر غلاما أن يحضرها إليه، وجلس يستعيد صورتها ويتمثلها وهي تناضل على ضعفها وتتكبر على ذلها، ولم يتمالك أن ربت الرقة إلى قلبه، ولم يستطع قهر عبرة ترددت في عينه. وغاب الغلام قليلا ثم عاد وحيدا فنظر إليه سلاميش كأنما يستفهم عما أتى به، فقال الغلام بعد التحية (إنها لا ترد بكلمة ولا ترفع إلي بصرها)، فصرفه سلاميش وجلس هنيهة يفكر، ثم نهض متثاقلا وسار إلى خيمتها حتى إذا دخل ألفاها على الأرض وقد وضعت رأسها بين كفيها.
فدنا منها ووضع يده على رأسها وتبسم ابتسامة ضئيلة وقال:(يحزنني أنهم أساءوا إليك)
فانتفضت الفتاة كأنما لسعتها جمرة، ثم رفعت رأسها وقامت تنظر إليه والحقد مرتسم على محياها، ونار الغضب تضطرم في عينيها، وكانت الملابس الرثة التي أتت بها قد تبدلت وألبست حلة من الحرير الأسود جعلت وجهها المصفر وعليه آثار الدموع يبدو كالزنبقة المبللة بالندى، ودفعت يده التي مدها نحوها وقالت وفي صوتها بحة:(أبعد يدك عني أيها القاتل السفاك. أدر وجهك الكريه عني فأنت قاتل أبي وأخي، وأنت سافك دماء قومي، وأنت المعتدي على وطني، ابعد عني وافعل بي ما شئت من عذاب أو قتل تكمل به وحشيتك وفظاعة جندك).