(أنني أرحمك في حزنك ولكني لا أملك دفعه. فقد كان أهلك أعدائي وكنا معا في ميدان قتال يسعون فيه إلى قتلي كما كنت أسعى إلى قتلهم. وهل للشجعان مصير إلا الموت في ميدان الحرب؟ وهل كان أولى بأهلك أن يشهدوا مدينتهم تحطم وتسلب وهم بين هؤلاء الأسرى؟
أنهم لو كانوا بين هؤلاء الأسرى لما ترددت في افتدائهم من أجلك ولكنهم في غير حاجة إلى ولا إليك. إنني قد رأيتك وبهرني حسنك، ثم رأيت حزنك فآلمني حزنك. ثم تكشفت لي كبرياؤك فقهرت كبريائي، ولو شئت أن تبعدي إلى مكان تختارينه لما رفضت لك مشيئة - وإن أحببت المقام هنا - كنت عندي ولا أقول لي حتى تقولي ذلك أنت)
فنظرت الفتاة نحوه وقد زال من عينها ذلك البرق القاسي الذي كان يلوح منهما كلما نظرت نحوه من قبل، وأطالت نظرتها إليه ثم أغضت بعد أن طبعت في خيالها صورته
ولم يذهب سلاميش ذلك المساء إلى خيمته حتى كان قد قاسمها بعض الطعام الذي قدم إليها في ذلك اليوم ولم تنل منه قبل ذلك شيئا
وفي ذلك المساء وفد إلى سلاميش بريد السلطان يحمل إليه أمر الارتحال إلى دمشق بمن معه من الجند. ويأمره فيه بتقسيم الغنائم بين أمرائه وجنوده وبتوزيع الأسلاب من أموال وسبايا. ووهبه نصيبه من ذلك كله جزاء له على بسالته واعترافا له بما كان من نضاله
وبكر سلاميش فذهب في الفجر إلى خيمة الفتاة وهو خفيف الخطوة متهلل النفس إذ كان قد عزم على خطة أملاها عليه قلبه، فرأى الفتاة راقدة على أريكة قضت عليها الليلة لم تذق للنوم طعما؛ فلما وقع نظرها عليه جال على وجهها طيف ابتسامة واعتدلت في مكانها ونظرت إليه وهو قادم نحوها. ولما حياها تحية الصباح ردت تحيته، ثم جلس قريبا منها ولم يكن عند ذلك على عادته من اعتداده بنفسه وكبريائه، بل كان في حديثه خفيض الصوت مهتز الأنفاس.
قال لها:(قد أمرني السلطان أن أتحرك اليوم إلى دمشق بعد أن انتهى الآمر هنا)
فلم تجبه بل نظرت نحوه، كأنما تسأله عن مصير وطنها، ومن فيه من رهطها، وكأنه أحس بما في نفسها من التساؤل فقال:(وقد أراد السلطان العظيم حفظه الله أن يجعل لي حظه من هذه المدينة، فصاحت الفتاة ومدت نحوه يديها: (إذن فالمدينة في يديك) فقال لها: