(قالت العلماء: أبو مخنف بأمر العراق وأخبارها وفتوحها يزيد على غيره، والمدائني بأمر خراسان والهند وفارس، والواقدي بأمر الحجاز والسيرة، وقد اشتركوا في فتوح الشام)
على أن المحدث كان عند جمهور ذلك الزمان أشرف موضوعا وأسمى منزلة من الأخباري؛ وذلك يرجع إلى شرف موضوع الحديث وإلى أن الأخبار وخصوصا قديمها كانت مظنة الأغراب والتلفيق والاختلاق. ولقد بلغ الأمر بهم أن كانوا يضعفون المحدث إذا مال إلى الأخبار، فقد ضعفوا محمد بن اسحق وكان أصلا رواية للحديث، ثم صار يحمل عن اليهود والنصارى ويسميهم أهل العلم الأول. وربما لم يستحسنوا للفقيه المختص باستنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة أن يتوفر على طلب الأخبار. ذكر ابن خلكان (أن أبا يوسف كان يحفظ المغازي وأيام العرب وأنه مضى ليستمع المغازي من محمد بن اسحق أو غيره وأخل بمجلس أبي حنيفة، فلما أتاه قال له أبو حنيفة، يا أبا يوسف! من كان صاحب راية جالوت؟ فقال له أبو يوسف: إنك إمام؛ وإن لم تمسك عن هذا سألتك والله على رؤوس الملأ أيما كان أولا، وقعة بدر أو أحد، فإنك لا تدري أيهما كان قبل الآخر، فأمسك عنه)
وجملة القول أن أهل السيرة والأخبار قد رسموا في أواخر القرن الثاني الموضوعات الأساسية للتاريخ عند العرب، وهي أموراً أربعة:(١) أخبار الماضين (٢) أحوال العرب قبل الإسلام (٣) السيرة (٤) أخبار الدولة الإسلامية. ومن أوائل القرن الثالث إلى أوائل الرابع يلحظ الباحث زيادة جوهرية في المادة التاريخية ودقة وتحرراً في مصادرها. فقد استقرت دواوين الدولة العباسية وتمهدت قواعدها ولاسيما دواوين الإنشاء والجند والخراج والبريد، وأمكن المشتغلين بالتاريخ أن ينتفعوا بها في بحثهم، كما يؤخذ مما اشتملت عليه تواريخ القرن الثالث من عهود رسمية ومراسلات سياسية وإحصاءات للمواليد والوفيات، ومدد ولاية كبار الدولة من وزراء وقواد وعمال وقضاة وولاة لمواسم الحج ووصف للحروب الداخلية ووقائع الغزو على الحدود صيفاً وشتاء وغير ذلك. ثم إنه في العصر المذكور قويت حركة النقل عن اللغات الأجنبية كالفارسية والسريانية واليونانية واللاتينية. وقد بدأت هذه الحركة من حيث التاريخ بترجمة ابن المقفع عن الفارسية حوالي عام ١٤٠ لكتابي خدينامه وآيينامه في تاريخ الفرس وأحوالهم؛ ومن هذا القبيل كتاب عهد أردشير