رغبة محمد في السلام؟ وكيف يريد أن يحقن دماء أهل المدينتين: التي ربته وليداً والتي آوته طريداً. هاهو ذا أبو سفيان يتقدم الفاتحين داعيا قومه إلى ترك الكفاح وإلقاء السلاح. وهاهو ذا جيش الفاتحين ينقسم أربعة أقسام، يدخلون مكة من جهاتها الأربع: الزبير بن العوام على رأس فريق، وخالد بن الوليد على رأس فريق، وسعد بن عبادة على رأس ثالث، وأبو عبيدة بن الجراح على رأس الرابع. ولست أظن أن هؤلاء سيلقون مقاومة، وإن كنت أشك في هؤلاء الذين يقيمون بأسفل مكة، وعلى رأسهم عكرمة بن أبي جهل، فما أظنهم يخلدون إلى الاستسلام، بل يأبون إلا امتشاق الحسام. على أن خالدا سوف يعمل فيهم نباله ونصاله، فلا يلبثون إلا ساعة من نهار يلوذون بعدها بأذيال الفرار، وتستطيعين أن تعتبري هذا اليوم في تاريخ مكة فاصلا بين عهدين، خالدا على مر الجديدين. هنيئا لمحمد! لقد غادر مكة آبقاً تحت أذيال الظلام، ثم دخلها دخول القياصرة العظام، فليصدح مؤذنه بالأذان حتى يش اجواز الفضاء، وليقم شعائره في ضوء النهار لا من وراء ستار، وليطف بأرجاء مكة آمنا مطمئنا، وليتفقد منزله إن كانت أبقت أيدي القوم عليه، وليزر معاهد صباه، وليغش حراء الذي كان يتحنث فيه، وليملأ عينيه من أرض مكة وسمائها، وليملأ رئتيه من هوائها، ليتنفس هواءها الآن نقيا صافيا، بعد أن حرمه عشرة أعوام، وتنفسه مسموما موبوءا ثلاثة عشر عاما. ولتتداع إلى خاطره الذكريات، وليستجمع العمر في لحظات. ويل لهبل ومناة، والعزى واللات، ولتلك الأصنام المشدودة إلى الكعبة بالرصاص. ولتلك الصور التي تمثل ملائكة السموات غواني فاتنات. هذا آخر عهدهن بأستار البيت، لشد ما كان يمقتها محمد. وكأني به يعمل فيها معول التحطيم ويحرم من أجلها على قومه النحت والتصوير، وهكذا تسيء الوثنية إلى الفن كما أساءت إلى الدين، ولكن ما تظنين محمداً فاعلا لقريش؟
قالت الثانية: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، إن محمدا ابر بقومه من أن يجد عليهم أو يؤاخذهم بما اقترفوا، وإنه لأكبر من أن يتشفى بالترة عند المقدرة، وقريش يأسرها المعروف كما ترهبا حدة السيوف. ولو أن محمدا أراد الانتقام لرأى من المهاجرين محبذين، ومن الأنصار أنصارا. إن سيوف أولئك وهؤلاء لتظمأ إلى ما في عروق القوم من دماء، أو ما سمعت سعد بن عبادة عندما دخل مكة صاح قائلا: (اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل