للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الحرمة) فما هو إلا أن سمع محمد صياحه، فتقلصت شفتاه، وقدحت الشرر عيناه، ثم اختطف الراية من سعد، وأعطاها قيسا ابنه. إن الرجل لا يريد بقومه شرا، وإنه ليضرب للعالم بذلك المثل الأعلى في الصفح والمغفرة عند القدرة، وإني لأذكر لمحمد مواقف من هذا القبيل تعتبر مثلا عليا في الصفح الجميل. فلقد سمعت أنه يوم حشد هذا الجيش لفتح مكة، أخذ على الناس المواثيق أن يتكتموا أمره ولا يذيعوا سره، ولكن حاطب بن بلتعة كان له بمكة ولد وأهل أشفق عليهم فكتب إليهم حتى يتجهزوا لقتال محمد؛ بيد أن خبر الكتاب نمى إلى محمد، فسرعان ما أرسل عليا والزبير في أثر حامل الكتاب، وكان امرأة فأدركاها فاعترفت بحرمها وأخرجت الكتاب من بين غدائرها. تعرفين ماذا كان جزاء حاطب وهو من جيش الرسول ومن شهود بدر؟ لقد جوزي على هذه الخيانة العظمى بالصفح والغفران! قال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنقه فإن الرجل قد نافق، فقال الرسول - بعد أن أطرق هنيهة - (دعه يا عمر وما يدريك أن الله قد اطلع على أصحاب بدر يوم بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، وهكذا تذكر النبي بجوار هذا الغدر موقف الرجل ببدر فاغتفر الإساءة اللاحقة للإحسان السابق وخالف ما درج عليه الناس، فكل الناس

ينسى من الإحسان طودا قد رسا ... وليس ينسى ذرة ممن أسا

ولقد تمثلت محمدا إذ وقف بأحد بعد أن وضعت الحرب أوزارها فرأى عمه حمزة مبقور البطن مجدوع الأنف ممضوغ الكبد ممثلا به أي تمثيل. فأقسم لئن أظفره الله بقريش ليمثلن بسبعين من قتلاهم؛ فهاهي ذي قريش مطأطئة الرقاب، وهاهي ذي رءوس قريش دانية القطوف، فما يمنع محمدا أن يطفئ من غلته ويبر بأليته؟ إنه المتسامح في اجمل صوره وأعلى أمثلته. على أنني لا أخال محمدا مهما بلغ من تسامحه يعفو عن الحويرث الذي أغرى على زينب ابنته عند هجرتها، أو عن هذين الرجلين اللذين أظهرا الإسلام ثم ارتكبا جريمة القتل بالمدينة ثم ارتدا إلى الشرك، أو عن قينة ابن خطل التي كانت تتغنى وتسمر بهجائه، فهو لابد قاتلهم، ولعلك لا تنكرين ذلك على محمد متناسية أن اللين لابد أن يشوبه العنف وإلا شاه جماله. ولقد كانت لمحمد بجانب تسامحه البالغ صرامة بالغة. ولعلك تذكرين أنه يوم قبل الفداء من بعض أسرى بدر وأطلق بعضا آخر أبى إلا أن يضرب عنق النضر ابن الحارث وعقبة بن أبي معيط، لشدة ما ناله من الأذى على أيديهما قبل

<<  <  ج:
ص:  >  >>