المسلمين أنفسهم بعدئذ على أساس متين من العلوم اليونانية مضافا إليها بعض نتائج دراسات الفرس والهنود، وبدءوا يضيفون إلى هذا التراث من مبتكراتهم. وفي الوقت نفسه فقد المسيحيون مركز احتكارهم (أو كاد) لهذه العلوم وارتفع إلى مستواهم المسلمون
إن أبرز ما في ذلك العصر من الشخصيات العملية الفذة ثلاثة: محمد بن زكريا الرازي (المتوفى سنة ٣١١) وهو أكبر أطباء العالم الإسلامي وأحد أطباء الدنيا الخالدين، وحسين بن عبد الله بن سينا (٣٧٠ - ٤٢٨) وكان فيلسوفاً وباحثاً طبيعيا له أكبر الأثر في أوربا بصفته وسيطا لنقل الطب الإسلامي إليها بمؤلفه الكبير المسمى بالقانون، وأبو ريحان محمد بن أحمد البيروتي (٣٦٢ - ٤٤٠) وهو أكبر الباحثين الطبيعيين في دائرة الحضارة الإسلامية وأبدعهم تفكيراً ومنهجا.
ما أجود ثقافة هذا الرجل الخوارزمي العجيب وإحاطته بمختلف العلوم والفنون من يونانية وعربية وإسلامية، كما يظهر من مقدمة كتابه في الصيدلة إذ يقول:
(كل واحدة من الأمم موصوفة بالتقدم في علم ما أو عمل، واليونانيون منهم قبل النصرانية موسومون بفضل العناية في المباحث وترقية الأشياء إلى أشرف مراتبها وتقريبها من كمالها. ولو كان ذيسقوريذس في نواحينا، وتصرف جهده على تعرف ما في جبالنا وبوادينا، لكانت تصير حشائشها كلها أدوية، وما يجتني منها بحسب تجاربه أشفية، ولكن ناحية المغرب فازت به وبأمثاله وأفازتنا بمشكور مساعيهم علما وعملا. وأما ناحية المشرق فليس فيها من الأمم من يهتز لعلم غير الهند، ولكن هذه الفنون خاصة عندهم مؤسسة على أصول مخالفة لما اعتدناه من قوانين المغربيين، ثم المباينة بيننا وبينهم في اللغة والملة والعادات والرسوم وإفراطهم في المجانبة بالطهارة والنجاسة تزيل المخالطة عن البين وتفصم عرى المباحثة. ديننا والدولة عربيان وتوأمان يرفرف على أحدهما القوة الإلهية وعلى الآخر اليد السماوية. . . وإلى لسان العرب نقلت العلوم من أقطار العالم فازدانت وحلت في الأفئدة، وسرت محاسن اللغة في الشرايين والأوردة، وإن كانت كل أمة تستحلي لغتها التي ألفتها واعتادتها واستعملتها).
لم ينحصر تقدير العلوم اليونانية مثل هذا في فئة معينة من العلماء، بل كان منتشرا بين الجميع طول القرن الرابع.