للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

هاهي ذي بغداد بمدرستها الفلسفية الطبية التي هي خليفة مدرسة الإسكندرية المشهورة، ولا يصعب علينا اقتفاء أثر انتقالها من الإسكندرية إلى بغداد عن طريق إنطاكية وحران. ومن كبار العاملين بها في القرن الرابع المترجم المسيحي أبو بشر متي بن يونان (المتوفى سنة ٣٢٨)، وأبو نصر محمد الفارابي الفيلسوف الإسلامي (المتوفى سنة ٣٣٩)، وتلميذه الفيلسوف المسيحي يحيى بن عدي (المتوفى سنة ٣٦٤)، والباحث المحقق أبو الحسن المسعودي (المتوفى سنة ٣٤٦)، وغيرهم من الفضلاء. وقد خلد الأديب أبو حيان التوحيدي (المتوفى بعد سنة ٤٠٠) في مؤلفه المسمى (بالمقابسات) ذكر مجالس أبي سليمان السجستاني المنطقي (المتوفى بعد سنة ٣٩١)

فكان القرن الرابع هذا أزهى عصر لدرس العلوم اليونانية في الحضارة الإسلامية، واستمرت تلك الدراسات وازدهرت في القرن الخامس أيضا خصوصا في بغداد، مع امتداد أشعتها إلى بلاد أخرى ولاسيما إلى مصر.

نتمنى أن نبحث ذلك الدور الأخير لنفوذ التفكير اليوناني في الشرق الأدنى بمناسبة مخطوط محفوظ في إحدى مدارس الموصل يشمل مناظرة دارت بين طبيبين فيلسوفين، وإن كانا دون أولئك الفحول درجة إلا أنهما شغلا مكانا جليلا في تاريخ الطب والعلوم الطبيعية في عالم الإسلام. هما أبو الحسن المختار ابن بطلان من نصارى بغداد، وعلي بن رضوان المصري. تتلخص مناظرتهما في أن كل واحد منهما كان يرغب في التدليل على علو كعبه في علوم القدماء، وعلى مقدرته عن الآخر وبروزه فيها عليه. فإنا أن اطلعنا على تراجم حياتهما كما جاءت في تاريخ الحكماء لابن القفطي، وفي عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، نرى أن شخصية كل واحد منهما ليس بينها وبين شخصية الآخر أي تشابه، حتى ليخال القارئ أنه يستحيل عليهما أن يكونا صديقين؛ على أن تنافسهما ربما يرجع أيضاً إلى غيرة كل منهما من صاحبه في صناعة الطب.

درس ابن بطلان الطب والفلسفة في الكرخ (حي من بغداد) على أشهر الأساتذة، وأكثرهم من النصارى، وتدل مؤلفاته على أنه لم يكن متطببا فقط، بل تبحر أيضاً في الآداب العربية والعلوم الإسلامية، كما قال عنه ابن أبي أصيبعة: (وكان ابن بطلان أعذب ألفاظاً (أي من ابن رضوان) وأكثر ظرفا وأميز في الأدب وما يتعلق به. ومما يدل على ذلك ما

<<  <  ج:
ص:  >  >>