المحال. أما الفصل الرابع فهو في أن من عادات الفضلاء إذا قرأوا كتابا من كتب القدماء ألا يقطعوا في علمائها بظن دون معرفة الأمر على الحقيقة، يتضح فيه احترام ابن بطلان للعلماء الأقدمين من اليونان ومن بعدهم كل الوضوح. قال:(إن من عادة القدماء إذا وقفت عليهم المطالب، ولاح لهم فيها تباين وتناقص، أن يعودوا إلى التطلب، ولا يتسرعوا إلى إفساد المطلب. فإن أرسطو بقي يرصد القوس الكائن عن القمر أكثر عمره فما رآه إلا دفعتين؛ وجالينوس واظب على تطلب السكون الذي بعد الانقباض سنين كثيرة إلى أن أدركه. . . وشيخنا أبو الفرج عبد الله بقي عشرين سنة في تفسير ما بعد الطبيعة ومرض من الفكر فيه مرضا كاد يلفظ نفسه فيه. وما منهم رحمهم الله إلا من أنفق عمره في العلم طلبا لدرك الحق. هذا والذي في عقولهم مما بالفعل أكثر مما بالقوة، فإن كنا وما بالقوة فينا أكثر مما بالفعل أخلدنا إلى الطعن عليهم ضحك الحق منا وخسرنا أشرف ما فينا. ولذلك يجب على كل نسمة عالمة دونهم في المرتبة إذا رأت أقاويلهم متباينة إلا تقطع بقول فيهم إلا بعد الثقة). ثم أورد المؤلف أمثلة كثيرة من كتب أرسطو وجالينوس وابقراط وأضاف إلى كل هذا مع صغر شانه بقياس تلك الطائفة المعدودة الدفاع عن نفسه في مسألة وصف التدبير المبرد بمصر خلافاً لبغداد، وحجته اختلاف الهواء. يقول في خصائص بغداد: (بغداد بلد شمالي ليس بكدر الماء، ولا مختلف الأهوية، ولا تنقطع عنه الأمطار في الشتاء، بل قد ينزل فيها الثلج من السماء، ويجمد لكثرة البرد شطا دجلة وتزيد مياهها عند زيادة المياه، وتأتي فواكهها وأزهارها في أوانها من فصول السنة، لا يكاد يرى فيهم مقشور ولا جرب، ولا من به ضيق نفس ولا حكة إلا في الندرة. أرضها قطب إقليم قال فيه أرسطو إنه ينبت الأذكياء، قلما اختار أهله للنسل من جلب من البلاد الجنوبية، فلهذا أوجههم على الأكثر ببعض مشربة حمرة، وأخلاقهم طاهرة، وطباعهم كريمة؛ ليست أرضها في وهدة فتحرقها الشمس وتغرقها كثرة المياه وهي من أسباب العفونة نعم، ولا في غربها بحر ولا في شرقها جبل في سفحه مقبرة وتتراقى منها الأبخرة، وتعكسها الريح الغريبة إلى المدينة، لكنها في بسيط من الأرض مستو، جهاتها مكشوفة للشمس والرياح الأربع، وأهلها مع هذه الخصال المعددة المضادة لمصر محتاجون من التدبير المبرد أقل مما يحتاج إليه أهل مصر وما والاها. والمصريون محتاجون إلى أكثر منه كثيراً. فلهذه العلل عدلت بهم عن الأشياء