ولقد نوهنا من قبل غير مرة بخطورة هذا النضال بين إيطاليا وبريطانيا العظمى وشرحنا عناصره الظاهرة والخفية، وليس من ريب في إن هذا النضال يستغرق اليوم كثيرا من نشاط السياستين البريطانية والإيطالية؛ وإذا كانت السياسة البريطانية تبدي كعادتها كثيراً من الأناة وضبط النفس، فإنها مع ذلك لا تخفي اهتمامها بحركات السياسة الإيطالية ومقارعتها. ولقد دللت إيطاليا الفاشستية في العامين الأخيرين على ما تجيش به من الأطماع المتوثبة والنزعات الاعتدائية ولاسيما ضد الإمبراطورية البريطانية؛ فغزو الحبشة والاستيلاء عليها بالعنف، يهدد مركز بريطانيا في السودان وفي شرق افريقية؛ وتحصين جزيرة بانتلاريا الواقعة بين طرابلس وصقلية يهدد مركز بريطانيا في مالطة، ومن ثم يهدد مواصلاتها الإمبراطورية في البحر الأبيض؛ ومد الطريق البري من طرابلس إلى الحدود المصرية يخفي وراءه غايات عسكرية اكثر مما يقصد إلى غايات سلمية وتجارية؛ ونشاط السياسة الإيطالية في المسالة الإسبانية هو مظهر آخر لتلك النزعة التي ترمي إلى تهديد إنكلترا في جميع النقط الحساسة من نفوذها الاستعماري أو سيادتها البحرية.
ولكن السياسة البريطانية مع ما تبدي من ضبط النفس لا تخفي أنها مصممة على سحق جميع هذه المحاولات الفاشستية والاحتفاظ بسيادتها في البحر الأبيض المتوسط، وتدعين نفوذها وسيادتها حيثما يقتضي الدفاع عن إمبراطوريتها الاستعمارية الشاسعة. والمسالة الإسبانية هي أول مظهر من مظاهر النضال بين السياستين؛ فكما أن رومة تحاول أن تدفع تدخلها في الحرب الأهلية الإسبانية إلى النهاية أو حتى يظفر الجنرال فرانكو وتقوم في إسبانيا حكومة فاشستية تخضع لنفوذ إيطاليا، فكذلك السياسة البريطانية تعمل على إحباط هذه المحاولة بتدعيم سياسة عدم التدخل، وعزل إيطاليا عن باقي الدول، وأظهرها بمظهر المعتدي المهدد لسلام القارة، وإنكلترا تفوز في هذه السياسة بتأييد فرنسا التي تخشى عواقب التدخل الفاشستي في إسبانيا مثل ما تخشاه إنكلترا، وتأييد روسيا السوفيتية التي تناصر الكتلة الديمقراطية، والتي تعاون إسبانيا الجمهورية على مقاومة الثورة الفاشستية منذ نشوبها. ومما يلاحظ أيضاً أن ألمانيا تبدي الآن فتورا ظاهرا في تأييد وجهة النظر الإيطالية مما يدل على أنها قد ملت التدخل في مغامرة لا تؤمن عواقبها؛ هذا إلى أن حوادث الحرب الإسبانية ذاتها تدل على أن الجبهة الثورية الفاشستية قد سرى إليها