المعقولات في مكان، وهذا محال. فإنها أن شغلت حيزا فإما أن يكون قابلا للقسمة أولاً، وما لا يقبل للقسمة هو تلك النقط الهندسية التي يتكون منها الخط والتي لا توجد منعزلة مطلقاً؛ فلا يمكن أن تكون محلا لشيء ما. وعلى هذا لم يبق إلا أن تكون المعقولات حالة في مكان قابل للقسمة. وفي هذا الغرض أيضاً صعوبات كثيرة لا سبيل إلى تذليلها ومناقضات لا نستطيع رفعها، وأهمها أن الكلي يصبح قابلا للقسمة تبعاً للحيز الذي يشغله فيصير شكلا هندسيا أو كمية عددية بدل أن يكون فكرة عقلية. وإذا قلنا بقسمته فهل هو مكون من أجزاء مكررة متشابهة أو غير متشابهة؟ إن أخذنا بالأول قادنا إلى نتيجة واضحة البطلان وهي أن يتكون الكل المتنوع المميزات من جزء واحد مكرر؛ وإن ذهبنا إلى الثاني كان معناه إن الكلي قابل للقسمة إلى مالا نهاية، شأنه في هذا شأن الجسم الذي حل فيه. ونحن نعلم أن الكليات وان قسمت إلى أجناس وأنواع ينبغي أن تقف عند حد في هذا التقسيم، فهي في ذاتها قابلة للقسمة إلى نهايته، وتبعا للحيز الذي تشغله يمكن تقسيمها عقلا إلى مالا نهاية، وهذا تناقض صريح على أن هناك معقولات بسيطة لا تقبل القسمة بحال فكيف نتصورها شاغلة لحيز قابل للقسمة؟ وإذا بطل كل هذا فالجوهر الذي تحل فيه المعقولات روحاني غير موصوف بصفات الأجسام، وهو ما نسميه النفس. وواضح إن هذه النفس هي التي تجرد الكليات عن الكم والأين والوضع وتستخلصها من الجزئيات فلا يمكن أن تضعها في حيز جديد؛ ولن يصير الكلى كلياً ولا المعقول معقولا بالفعل إلا إذا انتزع من المكان وفهم في ذاته بعيداً عن عوارض المادة هذا هو اعنف برهان يستدل به ابن سينا على روحية النفس؛ ويظهر انه كان معتدا به كل الاعتداد، فإنه ساقه في كل كتبه السيكلوجية التي وصلت إلينا في أشكال وألوان مختلفة بعضها أغمض واعقد من بعض؛ وربما كان أوضحها نسبيا ما جاء في كتاب النجاة. وليس القول بأن المعقولات لا تشغل حيزاً فكرة مبتكرة اهتدى إليها ابن سينا وحده. فأنا نجدها لدى الإغريق من قديم؛ وأرسطو بوجه خاص يفصل الكلام في وجود الكليات مبينا أنها موجودة في الجزئيات بالقوة وفي الذهن بالفعل. والوجود الذهني هو الوجود الحقيقي؛ وإذا كان بينه وبين الوجود الخارجي من فارق فهو انه مجرد عن الماديات. وأنا لنرى بين المسلمين كذلك الفارابي يحاول من قبل البرهنة على روحية النفس محاولة نظن أنها التي ألهمت ابن سينا برهانه الذي نحن