بصدده، فهو يلاحظ إن المعقولات تتنافى مع الحيز بطبيعتها، وما دامت النفس تدركها وتشتمل عليها فهي جوهر مفارق للمادة. بيد أن الجديد لدى ابن سينا هو ذلك الجدل المحكم والإلزام المبني على أقيسة اقترائية وقسمة ثنائية لا يلبث المرء أن يسلم أمامها بالمطلوب رضى أم لم يرض. وقد لا نستسيغ نحن الآن كثيرا هذا الطراز من الإثبات، فإنه أشبه بالمناقشة اللفظية منه بالبحث العلمي، إلا أنه كان من مميزات القرون الوسطى عامة، ولابن سينا بوجه خاص فيه فائقة. ومع هذا فلن نعدم الحيلة في إنكار بعض مقدماته أو الطعن في بعض قضاياه، ولكنا لا نحب أن نسترسل في أمر نعتقد أنه قليل الجدوى. ومهما يكن من شأن البرهان السابق فإنه يعتمد على مبدأ لا يزال علم النفس الحديث يقره. فان المحدثين يفرقون بين الظاهرة الجسمية والنفسية بأن الأولى هي التي تشغل حيزا في حين أن الثانية مجردة عن المكان، وكل ما تقاس به هو الزمان الذي تحدث فيه. ولئن فات ابن سينا أن ينمي معلوماتنا السيكلوجية ببرهانه هذا فإنه سيعرض علينا ذلك ببراهينه التالية
كم كنا نود أن نجد السبيل إلى ملاحظة النفس في ذاتها لنقف على طبيعتها ومميزاتها. فأما ولا حيلة لنا إلى ذلك فلنلجأ إلى آثارها ووظائفها فإن فيها خير معين على فهم كنهها. وكثيرا ما قام الأثر دليلا على وأعانت الوظيفة على توضيح مصدرها. ومن أهم وظائف النفس والصقها بها الإدراك؛ وأنا لنلحظ فيه ظاهرة غريبة هي أن النفس تدرك ذاتها وتدرك أنها تدرك، وفي هذا دليل قاطع على أن إدراكها مباشر وبدون واسطة. ذلك لأنها لو كانت تدرك بآلة جسدية لا نعدم كل هذا وما استطاعت أن تدرك نفسها ولا أن تكون شاعرة بإدراكها، بل ولا أن تدرك الآلة التي تستخدمها. ويكفي أن نقرن هذا الإدراك العقلي بالأدراكات الحسية أو المتصلة بالجسم لنتبين الفرق بينها. فبينما النفس تدرك ذاتها وتدرك إدراكها لا تستطيع حاسة ما من حواسنا أن تحس نفسها ولا إحساسها ولا العضو الذي يوصل إليها هذا الإحساس، اللهم إلا إن عكس إليها بمرآة ونحوها. وكذلك المخيلة لا تتخيل ذاتها ولا فعلها ولا آلتها، وإنما تتخيل أمرا خارجا عن كل ذلك. وإذن تكون النفس الناطقة من طبيعة غير طبيعة هذه القوى الجسمية.
وفوق ذلك فهذه القوى تتأثر بما تقوم به من مجهود. فان عظم مجهودها أو استخدمت زمنا طويلا بدا عليها التعب والإعياء وعز عليها أن تقوم بوظائفها في دقة. فالقراءة الطويلة