تضعف العينين، والضوء الشديد قد يعشيهما فلا تكادان تبصران، والرعد القاصف قد يصم الإذنين. وليس أثر هذه الاحساسات الشاقة بمقصور على وقتها، فقد يبقى بعدها زمنا، فمن ابصر ضوءاً عظيماً لا يبصر معه ولا عقبه ضوءا ضعيفا، ومن سمع صوتا قويا لا يسمع معه ولا على أثره صوتا ضئيلا، ومن ذاق طعما شديد الحلاوة لا يحس بعده خفيف الطعوم، وعلى عكس هذا يزداد العقل نضجا كلما استخدم وقام بوظيفته، وإذا حل مسألة معقدة كان في هذا ما يعينه على حل ما هو اعقد منها حقا انه قد يبدو متعباً أحياناً ولكن هذا راجع إلى ما يتصل به من ظروف عضويه، فإنه يستعين بالمخيلة كثيرا وهي مرتبطة بالجسم ارتباطا وثيقا.
وأخيراً كل أعضاء الجسم تضعف تبعا لتقدم السن، ويبدأ هذا الضعف عادة بعد سن الأربعين. لكن القوة الفعلية تخالف هذا تمام المخالفة، فهي لا تكتمل إلا حين يجاوز الإنسان هذه السن. يقول ابن سينا:(لا شك أن الجسم الحيواني والآلات الحيوانية إذا استوفين سن النمو وسن الوقوف أخذن في الذبول والتنقص وضعف القوة وكلال المنة، وذلك عند الأنافة على الأربعين سنة. ولو كانت القوة الناطقة العاقلة قوة جسمانية آلية لكان لا يوجد أحد من الناس في هذه السنين ألا وقد أخذة قوته هذه تنتقص، ولكن الأمر في أكثر الناس على خلاف هذا، بل العادة جرت في الأكثر انهم يستفيدون ذكاء في القوة العاقلة وزيادة بصيرة؛ فإذن ليس قوام القوة النطقية بالجسم والآلة، وإذن هي هي جوهر قائم بذاته) وأما ما يبدو من نسيان أو ضعف في التفكير أو خطأ في الأحكام أثناء الشيخوخة فليس راجعا إلى نقص أو اضطراب في القوة العاقلة، وإنما مصدره مؤثرات جسمية وعضوية وبيان ذلك أن النفس تؤدي مهمتين متباينتين ومتعارضتين تقريبا: فهي تسوس البدن وتدبر أمره، كما تقوم بالتفكير والتعقل. وكثيراً ما عز عليها الجمع بين هذين الأمرين؛ فيحول الحس دونها والاسترسال في النظر والتأمل، كما يصرفها البحث العميق ولو مدة معينة عن حاجات الطعام والشراب، فما نظمه من ضعف التفكير أو تعطل العقل لدى الشيخ أو المريض منشؤه أن النفس قد شغلت بمهمتها الجسمية، بدليل أنها تسترد كل قوتها العاقلة إذا ما زال المرض.
هذا مجمل البراهين التي يستدل بها ابن سينا على روحانية النفس، وفيها من غير شك