للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الشعراء القصيد في مزايا الشعر وأطواره وأحوال الشعراء.

ومن ذلك التراث الأدبي الزاخر يكتسب الأدب شيئاً آخر: يكتسب على ممر الأجيال لغة أدبية خاصة وألفاظا خاصة للشعر وأخرى للنثر، قد صقلها الاستعمال الطويل ورفعها استخدام كبار الأدباء إياها إلى مرتبة عالية، وارتبطت بمعان سامية مما يجعلها أهلا لما ينزع إلى تصويره الأدباء من عواطف رفيعة فيصير للشعر والنثر من كل ذلك لغة خاصة متسامية على لغة العصر المستعملة في الكلام الممتازة بسهولتها وإسفافها أحياناً وتطورها المستمر بتطور الحضارة المادية؛ وتظل لغة الشعر والنثر الخاصة تلك في ازدياد كلما أضاف إليها أقطاب الأدب ألفاظا من اختراعهم أو اشتقاقهم أو مما يرفعونه بعبقرياتهم من لغة العامة، أو يقتطفونه من لغات الأمم الأخرى وتتوارث في الأدب بجانب ذلك تعابير خاصة جارية ومجازات وأخيلة وأمثال، يموت بعضها تدريجا ويحيا بعض، ويزداد بمرور الزمان صقلا وانسياغا.

هذا الطور الفني لا شك طور نضج الأدب وبلوغه اشده: فيه يجمح بين حرارة الشعور وعمق الفكرة، وبين طرافة الموضوع وجودة الأسلوب، وفيه يتخلص من أقذاء المادية وشوائب الصناعات، وفي هذا الطور لا في طور البداوة يظهر اكبر أدبائه وفحولة شعرائه؛ وما يزال الأدب في رقيه المطرد وتراثه في ازدياده المستمر، مادامت في الأمة فورة الحياة وصدق الشعور وصحة النظرة، فإذا خمدت النفوس وزاغت النظرات، انقلب الفن صناعة والحرية قيودا، وتمسك الأدباء بالقشور دون اللباب، وبالألفاظ دون الحقائق.

كان أدب الجزيرة العربية في الجاهلية وصدر من الإسلام بدويا: الشعر قوامه والبساطة سمته والقريب الحاضر من شؤون الحياة مادته، محدود المواضيع، غير متسق الأسلوب ولا منظم الأفكار ولا ظاهرا لوحدة في القصيدة. وقد استعاض العرب عن التدوين بالرواية: يروي أشعار كل فحل ناشئ يقوم له مقام الديوان المخطوط، ويقوم الشاعر من راويته مقام الأستاذ يبصره بالشعر ووجوه القول؛ وبطريقة الرواية هذه حفظ من شعر العرب شيء كثير، وبها ترعرعت الصناعة الشعرية حتى بلغت في هذا العصر مبلغا من التقدم يعتد به، وصارت لها تقاليد خاصة في الأوضاع والمعاني والألفاظ، كتصريع البيت الأول من القصيدة وتقديم النسيب في مستهلها، تتجلى كل هذه الميزات في الملعقات، التي

<<  <  ج:
ص:  >  >>