للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يتحدث صاحب كل معلقة منها في نفس القصيدة، عن أحبابه وشرابه، وحربه واسفاره، وحكمته وأدبه وقبيلته وعزها وهلم جرا

وبازدياد حظ العرب من الرفاهة والتثقف والتهذب، ازداد الشعر تهذيب لفظ واتساق أسلوب كما يتمثل في شعر ابن أبي ربيعة وجميل؛ وظهر النثر يستخدم أولاً في تدوين العلوم ورسائل الأمراء وإجراءات الحكومة، ثم مازال حتى استحال علا أيدي ابن المقفع والجاحظ والبديع، فناً يتطلب الجمال اللفظي والمعنوي ويتوخى نواحي الفن ومذاهب التفكير بعيدة عن النفع المادي والغرض الحاضر. وبلغ الشعر الغاية من الصناعة الفنية والحلاوة اللفظية والتقسيم الموضوعي والتقصي في المعاني والتفنن في الوصف. على أيدي أبي نواس وأبي تمام وابن المعتز ولبن الرومي وغيرهم، وهؤلاء وإضرابهم هم لاشك فحولة شعراء العربية، وإن ظل كثير من الأدباء لنزعتهم من المحافظة يقدمون امرأ القيس وأصحابه من الجاهليين. وظهرت كتب النقد وعلوم البلاغة، ونظم الشعراء القصيد في إطراء فنهم، ودبجوا أشعارهم بالتشبيهات والأمثال يحتفون بطلبها ويكاثرون بعرضها، كقول الطائي:

وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود

لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود

وقد سئل بشار فيما قيل: بم فقت أهل عصرك في حسن معاني الشعر وتهذيب ألفاظه؟ فأجاب: بأني لم أقبل كل ما تورده عليّ قريحتي، ويناجيني به طبعي، ونظرت إلى مغارس الفطن ومعادن الحقائق، ولطائف التشبيهات فسرت إليها بفكر جيد وغريزة قوية فأحكمت سبرها وانتقيت حرها وكشفت عن حقائقها واحترزت عن متكلفها. فهذا قول أديب صناع يروض المعاني والألفاظ ويعرف خطر التروي وأعمال الفكر ولا يرسل القول على عواهنه ولا يطمئن إلى الارتجال الذي كان شيمة الجاهليين ومن أمثلة التدقيق في انتقاء الألفاظ ونقدها ومراعاة تناسب حروفها ومخارجها أيضاً، أن ابن المعتز عاب على أبي تمام تكرار كلمة (أمدحه) مع الجمع بين الحاء والهاء، وهما معا من حروف الحلق، وذلك في قوله:

كريم متى أمدحه أمدحه والورى ... معي وإذا ما لمته لمته وحدي

هكذا يجري تاريخ أدب كل أمة: يبدأ بطور أولي الأدب فيه ظاهر البداوة، يليه طور فني

<<  <  ج:
ص:  >  >>