للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

زد على ذلك مكانة المرأة في المجتمع، التي كانت قد بلغت قبل أن يكتب البديع مقاماته حداً من التدهور بعيداً، بعد ما كان من امتداد الفتوح واختلاط الأجناس وتفشي التسري والعبث. فضرب على المرأة الحجاب، وخيم عليها الجهل واعتزلت المجتمع، والمجتمع بغير المرأة لا يخرج القصة الفنية التي تدرس الحب وتقدس الزواج وتشرح العواطف، وإنما ينتج الشعر المستهتر البذيء كشعر بشار وأبي نؤاس. وقد كان إنهاض حال المرأة نصب عيني أديسون وستيل وغيرهما ممن تلاهما من القصصيين كما كان الحب مداراً أكثر القصص، كما كان من النساء جم غفير من القصصيات كما تقدم.

وإلى نزعة التقليد التي كانت تسود الأدب العربي، كان ذلك الأدب ينزع إلى الصنعة اللفظية: فمقامات البديع ذاتها مثقلة بالصنعة والمحسنات، ولا غرو، فإذا كان الأدب قد تخلى إلى حد بعيد عن مشاكل المجتمع، فلم يبق له من مواد القول إلا النذر اليسير، فلما أعوزه الافتنان في المعاني التفت إلى اللاعب باللفظ، وإلى هذه الزركشة اللفظية قصد الحريري أول ما قصد في محاكاته للبديع، ولم يفكر قط في ابتكار جديد من جهة المعاني والأفكار ولم يحاول الزيادة عليه من جهة تناول الموضوعات الاجتماعية، بل اكتفى بالتقليد الشكلي، فجعل في كل مقامة شخصين يروي أحدهما عن الآخر، وتنقسم المقامة بذلك إلى قسمين. دهليز للقصة كما يقول العامة، والقصة ذاتها التي تبدأ بظهور البطل، ولم تجئ شخصية بطله في وضوح شخصية أبي الفتح وتعدد نواحيها.

فحالة المجتمع العربي، ونظام الحكم فيه، ومنزع الأدب العربي، كل هاتيك لم تكن ملائمة لتطور القصص إلى كماله، فوقف عند بدء الطور الثالث، وهو الطور الفني الصميم، فعرف الأدب العربي النوادر والأخبار والسير وما إليها، وعرف الحكايات ذوات المغزى العلمي أو الخلقي، ولم يعرف القصة الاجتماعية والنفسية ذات التصميم المحكم والشخصيات الواضحة، والفكرة الموحدة والغاية المستقلة والموضع الفني، ولم تسم القصة في الأدب العربي إلى منزلة عالية كالتي تمتع بها الشعر والخطابة والنقد، وظل للشعر المكانة الأولى وبقى مستأثراً بأكثر ضروب القول، ولم يظهر في القصة من الأعلام أمثال من ظهر في الشعر والنقد والخطابة، وترك القصص المطول الحافل بالوصف الاجتماعي والخيالي العامة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>