القصة الفنية التي تدرس المجتمع وتحلل الشخصية وتهتم بالتصميم الفني والفكرة الموحدة، ويبدو كل ذلك في مقامات بديع الزمان، فهذا الكاتب يمثل في العربية من هذه الوجهة مكان أديسون وستيل في الإنجليزية، وقد أبدى في ثنايا مقاماته من نفاذ النظرة وبداعة الوصف وبراعة الفكاهة وتنوع الموضوعات ما هو جدير بأسمى أنواع القصص؛ واخترع شخصية أبي الفتح الإسكندري فكان على الأرجح المؤلف العربي الوحيد الذي أخترع شخصية شائقة واضحة من صنع الخيال المجرد. ولم تكن شخصيات المقامات التالية فيما بعد إلا نسخاً مكررة منه لا ابتكار فيها، وشخصية أبي الفتح الإسكندري تعين من مراحل تطور القصة العربية نفس المرحلة التي تعيها شخصية سير رودجر ديكفري من تطور القصة الإنجليزية.
فمقامات البديع في الأدب العربي بمثابة مقالات أديسون وستيل في الأدب الإنجليزي: تعين بدء ظهور القصة الفنية الاجتماعية التحليلية، بيد أن تطور القصة العربية وقف عند هذا الحد لا يتخطاه. ولم يبلغ مرحلته التالية، لأن الأسباب اللازمة لذلك لم تكن مكتملة: فالمقامات ذاتها قد ظهرت متأخرة، ظهرت في أوج رقي الأدب العربي في القرن الرابع. وكان أجدر أن تأتي متقدمة في القرن الثاني مثلاً، فيليها باقي التطور المنشود الذي تلا مقالات أديسون وصاحبه في الإنجليزية، وما ذاك إلا لنزعة الجمود والتقليد التي كانت دائماً مخيمة على الأدب العربي، تمنع المغامرة الأدبية والابتكار والتنويع في الأشكال والموضوعات، وفقدت المقامات بعد بديع الزمان صبغتها الاجتماعية وأصبحت لعباً بالألفاظ والمعاني.
أضف إلى نزعة الجمود تلك استمرار اعتماد الأدب على الأمراء دون جمهور الشعب، قلما يصور رجاله مشاكل الشعب، قلما يصور رجاله مشاكل الشعب أو يحاولون الأخذ بيده وقيادة طريقه: فالحريري مثلاً حين تتابع بديع الزمان وكتب مقاماته لم يكتبها بداع من داخل نفسه يدعوه إلى تناول مشاكل المجتمع ومطامع الشعب بالدرس ولعرض والإصلاح والتوجيه، بل امتثالاً لإشارة بعض الأمراء ممن (إشارته حكم، وطاعته غنم) كما يقول هو في مقدمته ومحال أن ترقى القصة الاجتماعية في مجتمع أدباؤه متنصلون من مشاكل شعبه لائذون بظل أمرائه.