الجليل دون أن تكون مدينة فيه لغيرها، فإذا كانت الشعوب المجاورة لها آتتها شيئاً من العلم فما هو إلا مدد مبهم غاية في الإبهام. لا مراء في أن المصريين والكلدان والهنود لهم في ماضي الإنسانية مقام كبير، ولكنهم مع ذلك في الفلسفة أو في العلم بعبارة أعم ليسوا شيئاً مذكوراً في جانب الإغريق الذين لم يكونوا ليتعلموا منهم.
وقال أيضاً:(وإن العلم على جميع صوره كان معدوماً في الشرق فأخترعه الإغريق ونقلوه إلينا).
ولهذا الرأي مقلدون في مصر كما هي الحال في كل فكرة تطعن على الشرق.
وفريق آخر يذهب إلى ما نقله (لاإرس) من أن الفلسفة الإغريقية ليست إلا تراثاً شرقياً متغلغلاً في القدم ويستندون في هذا إلى براهين أهمها ما يأتي:
١ - إن جهود المستشرقين قد وضعت أمام أنظارنا مدنيات شرقية ضاربة في التقدم بسهم نفاذ كمدنيتي مصر والعراق مثلاً، وأنبأتنا بأن هذه المدنيات سابقة على مدنية الإغريق بعدة قرون. وأثبتت لنا علائق متينة بين بعض ما تحتويه هذه المدنيات وبين الفلسفة الإغريقية ممثل علاقة نظرية (تاليس) الشهيرة القائلة بأن أصل الكون هو الماء بأنشودة خلق الكون الدينية العراقية التي تصرح بأن كل شيء في الكون منشئوه الماء إذ تقول في مطلعها ما ترجمته: (حين لم تكن السماء العليا بعد قد فازت باسمها ولم تكن الأرض هي الأخرى قد تسمت بهذا الاسم كان أبوهما: (أبسو) وأمهما (تياما) وهما: (الماء) أو جوهر كل شيء ممتزجين امتزاجاً تاماً قصد التناسل والإخصاب).
فإذا لاحظنا أن الأنشودة العراقية كانت قبل (تاليس) بعهد بعيد، وأن سيادتها في القرن السادس قبل المسيح كانت على أتم ما تكون قوة وتغلغلاً في النفوس، ولاحظنا الصلات التجارية والاجتماعية في ذلك العصر بين العراق وأيونيا استطعنا أن نرجح في سهولة كفة تأثر تاليس بتلك الأنشودة العراقية القديمة، بل استطعنا أن نجزم بأن من المستحيل أن يكون تاليس قد ابتدع نظريته في أصل الكون.
٢ - إن العلماء المشتغلين بالبحث في الإنسان وخواصه والفروق الموجودة بين طوائفه المختلفة قد قرروا أنهم التقوا أثناء بحوثهم بأدلة قاطعة على أن بعض النظريات الإغريقية لا يمكن أن تكون من أصل إغريقي، لأنها توفرت فيها جميع شرائط العقلية الشرقية