الزهر، وإذا هي تبلغ ما لم تبلغه من بعد الزهراء المدهشة، ولا فرساي. . .
ثم ماتت فجأة، فإذا كل ذلك حلم سريع وبرق خاطف. لم تعش إلا نحو خمسين سنة، (٨٣٨ - ٨٨٣) وما خمسون سنة في عمر المدن، إلا خمسون دقيقة، أفرأيت الجميلة التي ولدت بأعجوبة، فإذا هي الغادة الفتانة، ثم إذا هي تقضى بعد ساعة؟
لم تكن تزدهر وتستقر حتى نودي فيها بالرحيل والرجوع إلى بغداد، فهب الناس مذعورين، يحملون ما خف حمله وغلا ثمنه وتركوا المدينة العظيمة للرياح والوحوش واللصوص. . .
قرأت ذلك من حديثها، ثم لم أعد أعرف عنها شيئا، لم أدر ما صنع الدهر بها. . . وأين من يسأل عن الآثار ويبحث عنها؟ ومن يعرف اليوم ماذا جرى بالكوفة ومسجدها؟ والبصرة ومربدها؟ أو يعلم صفة القادسية أو اليرموك؟ من يسأل عنها وهذا مسجد بغداد العظيم، مسجدها الجامع، قد أبتلعته الدور وطغت عليه فلم يبق منه إلا منارته التي تقوم منحنية تبكي هذا المجد العظيم وهذا الماضي الفخم، وتنادي لو وجدت سميعاً: وما كان ذنب هذا المسجد، وما كان ذنب هذه الآثار، إلا إننا نحن وارثوها لا الفرنسيس ولا الإنكليز، أولئك الذين لم يدعوا في بلادهم شبراً من الأرض فيه جمال من جمال الطبيعة، أو أثر من آثار الماضي، إلا كتب عنه مؤرخوهم، ووصفه أدبائهم، وصوره مصوروهم، ونحن الذين أضعنا آثارنا الجليلة، وهدمناها بأيدينا لنبني بأنقاضها دورنا الحقيرة!
أسمعتم بالمدرسة النظامية التي درس فيها حجة الإسلام الغزالي والتي كانت من أكبر جامعات القرون الوسطى؟ أتدرون ماذا بقي منها! منارة مهدمة طولها أربعة أمتار، في زقاق عرضه ثلاثة أمتار، عند جامع مرجان في بغداد، والمنارة مائلة قد انحنت تحت أثقال دار قد ركبتها، وربما هدمت المنارة لتقام عليها الدار، فمن يدري؟ وأين من يدرس الآثار ويعنى بها؟ وهذا قصر الخضراء في دمشق، ما بقي منه إلا اسمه تحمله مصبغة، في زقاق القباقيب. يا لعجائب الزمان! صار مثوى التاج ومحط العرش زقاق القباقيب. . . فمن سأل عنه؟ ومن وصفه؟ ومن حفر في أنقاضه؟ أما لو أن هذه الآثار كانت لغيرنا، إذن لحرقت هذه البقاع حرقاً ثم أخرجت كنوزها، ثم ملأت نفوس أهلها عزة، ثم كانت لهم أجنحة يطيرون بها في معارج العلاء. . . إن تحت هذه الأرض علماً ومجداً وجلالاً، ولكن ليس