للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

سريعاً فيه تسليم واقتناع بعدم جدوى محاولة الإصلاح وعدم إمكان أحسن مما كان. وظهر ذلك الميل أيضاً في شعر أبن الرومي، الذي صور كثيراً من الشخصيات الفكاهية، على أنه كان يتناولها من ناحيته الفردية وينحى عادة على أعدائه الشخصيين؛ وظهر نفس ذلك الميل إلى تتبع أحوال المجتمع في شعر المعري خاصة، وذلك من الأبواب التي تفرد بها أو كاد بين أدباء العربية، وسبق في التصريح بها عصره، وله في ذلك أبيات رائعة ليست إلا خلاصة موجزة لبعض مذاهب السياسة والاقتصاد في العصور الحديثة؛ ومن ذلك اعتباره الحكام خدام الرعية، ونقمته على عدم تساوي توزيع الثروة، وذلك قوله من لزومياته:

مل المقام فكم أعاشر أمة ... أمرت بغير صلاحها أمراؤها

ظلموا الرعية واستباحوا حقها ... وعدوا مصالحها وهم أجراؤها

وقوله

لقد جاءنا هذا الشتاء وتحته ... فقير معرى أو أمير متوج

وقد يرزق المجدود أقوات أمة ... ويحرم قوتا واحد وهو أحوج

على أن الشعر ليس بأصلح المجالات للنقد الاجتماعي والإصلاح الشعبي، وإنما مجال ذلك النثر الذي هو أكثر شيوعاً وأقرب إلى متناول القارئين، والذي هو أرحب صدراً بالشرح والتفصيل والإسهاب؛ والمقالة والقصة فرسا رهان هذا المضمار، ولكن النثر العربي لم ينهض بهذا العبء، ولم يزد أن خطا الخطوة الأولى في هذا السبيل في كتابات الجاحظ ومقامات البديع؛ وقد جاءت هذه الخطوة متأخرة. ولما جاء الجيل التالي لم تتبعها خطوة أخرى، بل أعقبها تقهقر إلى الوراء، فلم تتطور المقامة إلى قصة فنية اجتماعية تدرس المجتمع وتقوده في سبيل الإصلاح، بل تحولت في يد الحريري وغيره إلى معارض للألفاظ المزركشة والألغاز المعماة والحيل الملفقة، فقد كانت الأمة في طريقها إلى الانحلال، والأذهان في انحدارها إلى الخمود، والحكام يزدادون على مرافق الأمة وطأة، والأدب يتقلص رويداً رويداً، ويهجر لباب الحياة إلى قشور الألفاظ.

فالأدبان العربي والإنجليزي قد تأثرا في مختلف العصور تأثراً كبيرا بأحوال مجتمعيهما، وهو أمر لم يكن منه بد، بيد أن الأدب الإنجليزي كان أكثر بالمجتمع تأثراً وأكثر فيه

<<  <  ج:
ص:  >  >>