للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والعزيز، كل ذلك في إحكام المؤرخ المتمكن الذي يستطيع على رغم الإيجاز أن يمهد السبيل لموضوعه خير تمهيد.

تناول الأستاذ بعد ذلك سيرة الحاكم، وشرح في جزالة ووضوح خلاله وصفاته وما لجأ إليه من سفك الدماء وما أقام من مراسيم اجتماعية ودينية، وما اكتنف الدولة من الأحداث الخارجية، ثم ما كان من أمر اختفائه، ويعجبك منه في هذا القسم من كتابه مهارة مناقشته الروايات المختلفة ودقة التعليق عليها، تتبين ذلك في مثل شرحه لنسب الحاكم وأخته ست الملك، ثم فيما أورد من روايات عن صفاته ومزاجه وأخيرا في حادث اختفائه.

على أن أهم الأشياء عندي في الكتاب وأولاها بالدرس والاعتبار، هو رأي الأستاذ المؤلف في الحاكم وصفاته، وهو رأي لم يسبقه إليه غيره فيما أعرف، فالأستاذ لا يرى في الحاكم ما اعتاد المؤرخون أن يروا فيه من رجل معتوه أخرق، يبطش لمجرد البطش، ويصدر من الأحكام الغريبة ما يدل على شذوذ وحمق. بل إنه على العكس يراه مصلحاً من كبار المصلحين، كانت أعماله التي اعتاد الناس استنكارها وسائله إلى ما يتوخى من إصلاح لا أكثر من ذلك ولا أقل: نعم كان الحاكم عنده (ذهناً بعيد الغور، وافر الابتكار، وكان عقلية تسمو على مجتمعها وتتقدم عصرها بمراحل، وكان بالاختصار عبقرية يجب أن تتبوأ في التاريخ مكانها الحق)

والأستاذ لا يرسل القول جزافاً، وكيف يقع لمن كانت له مثل متانة حجته وحصافة رأيه أن يجازف برأي؟ وإنما راح الأستاذ يدافع عن رأيه هذا دفاعا قوياً يبهرك ويستميلك. أليس القتل والطغيان هما من أقوى وسائل الديكتاوريات الحديثة في إقامة نظمها؟ ثم أليست سياسة الحاكم هي السياسة الميكيافيلية التي قد يلجأ إليها كثير من الحكومات في شتى الظروف؟ أليس الحد من حرية النساء مما تلجأ إليه اليوم ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشستية من وسائل محاربة الخلاعة والفجور اللذين يؤديان إلى انحلال المجتمع؟ إلى غير ذلك من حجج الأستاذ وآرائه النيرة الظريفة التي تشوقك وتلذك. والأستاذ لا يبرر بها مسلك الحاكم كما استدرك، ولكنه يدفع بها ما اتهم به.

بيد أني وإن أعجبتني تلك الآراء واستمالتني في كثير من المواقف، قد أحسست شيئاً من الصعوبة في أن أحمل نفسي على الأخذ ببعضها. نعم رأيت مشقة في أن أنفي الشذوذ بل

<<  <  ج:
ص:  >  >>