الجنون عن شخص يحرم الجرجير لأنه ينسب إلى السيدة عائشة، والملوخية من أجل معاوية، والمتوكلية من أجل الخليفة المتوكل العباسي؟ وكيف أسيغ تشجيعه الدعوة الإلحادية؟ وعلى أي أساس من العقل أحمل قتله قائده الفضل بعد أن هزم أبا ركوة الذي احتل مصر؟ بل كيف يجوز في عقل خروجه ليلا إلى الجبل على ظهر حماره في غير قوة تحميه على الرغم مما كان يضطرم به المجتمع يومئذ من الرغبة في الانتقاض عليه والتخلص من طغيانه.
على أن الأستاذ يصرح في نزاهة المؤرخ وإنصافه (أنه ليس يدعي أنه يستطيع أن يعلل كل قوانين الحاكم وإجراءاته وتصرفاته أو أن ينفذ إلى بواعثها وحكمتها جميعاً، فهناك كثير منها مما لا يستطاع فهمه وتعليله)
وقصارى في هذا المجال الضيق أن أعلن إعجابي بهذا الكتاب، وأن أنوه بما أفدته من دراسة أسرار الدعوة الفاطمية ونواحي العصر الفاطمي، ذلك العصر الفذ الذي تجد من آثاره الأزهر المعمور - دراسة لم أظفر بمثلها فيما كتب حديثاً عن الدولة الفاطمية. وكم كان عظيما من الأستاذ عنان ذلك الجهد المرير الذي تستبينه فيما يشير إليه من مراجع مكتوبة وخطية ليس ثمة من يستوعبها إلا من كان له مثل جلده ودأبه وإخلاصه. ولا عجب أن جاء كتابه مظهراً من مظاهر الجد والقوة في نهضتنا الأدبية، وهو مطبوع طبعاً جميلا في دار النشر الحديث ويقع في مائتين وست وسبعين صفحة من القطع الكبير، بآخره ثبت حافل للمصادر، وفهرس أبجدي عام
- ٢ -
يأتي بعد ذلك الكتاب الثاني (من حديث الشرق والغرب) للدكتور عوض، وأحب أن أتخطى الكتاب إلى صاحبه برهة فأعرض عليك طرفاً من خلاله، لا أرى مندوحة عن عرضه في مثل ذلك المقام. الدكتور المؤلف بما له من مكانة في حياتنا الأدبية غني عن التعريف، ولكني أذكر لمن لم يعرفه إلا في آثاره أن من أبرز صفاته الذكاء الحاد وعذوبة الروح ومحبة الأدب حباً صادقاً، حتى لو أنه حاول بكل ما في وسعه أن يهجر الأدب لما استطاع ذلك الهجران؛ محدث ماهر طلي الحديث، يميل إلى الفكاهة ولكنها الفكاهة التي يتخللها الجد المرير في غالب المواقف؛ يحب قومه وبلاده حباً مؤكداً؛ مثقف من الطراز الأول في