وأتصل العالم بعضه ببعض اتصالاً وثيقاً في المواصلات والعلم والسياسة والاقتصاد وما إلى ذلك
كل هذا يجب أن يكون إرهاصاً لكثرة النبوغ والتفنن في البطولة، لا لقلة النبوغ وندرة البطولة؛ فلم أصيبت الأمم كلها بهذا العقم وكان مقتضى الظاهر أن كثرة المواليد تزيد في كثرة النابغين، وكان مقتضى الظاهر أيضاً أن عصر النور يلد من الأشخاص الممتازين أكثر مما يلد عصر الظلام
يظهر مع الأسف - إن الظاهرة صحيحة وإن الجيل الحاضر في الأمم المختلفة لا يلد كثيرا من النوابغ، ولا ينتج كثيراً من الأبطال، وأن طابع هذه العصور هو (طابع المألوف والمعتاد) لا (طابع النابغة والبطل)
بقي علينا معرفة السبب في ذلك
من الأسباب القوية على ما يظهر أن الناس علا مثلهم الأعلى في النابغة والبطل، فلا يسمون بطلاً أو نابغة إلا من حاز صفات كثيرة ممتازة قل أن تتحقق؛ وهذا طبيعي، فكلما رقى الناس ارتقى مثلهم الأعلى
قد كنا إلى عهد قريب نعد من يقرأ ويكتب، وبعبارة أخرى (من يفك الخط) رجلاً ممتازاً لأنه نادر وقليل، فكان ينظر إليه نظرة تجلةً واحترام؛ فلما كثر التعليم بعض الشيء كان من أخذ الشهادة الابتدائية شاباً ممتازاً؛ فلما كثرت انتقل الامتياز إلى البكالوريا، ثم إلى الشهادة العليا، ثم إلى شهادات جامعات أوروبا، ثم أصبحت هذه أيضاً ليست محل امتياز، وارتفعت درجة النبوغ إلى شيء وراء هذا كله
والناس - على جملة - استنارت أذهانهم إلى حد بعيد، واكتشفوا سر العظمة، فأصبحت العظمة المعتادة لا تروعهم، إنما يروعهم الخارق للعادة، وأين هو تحت هذه الأنوار الكشافة؟
ثم شعر الناس بعظمتهم هم أيضاً وبشخصيتهم؛ والبطولة تأتي - في الغالب - عندما يسلس الناس زمام نفوسهم للبطل، فهم بطاعتهم له واستسلامهم لأمره وإشارته يزيدون في عظمته، ويغذون بطولته - فإن كانوا هم أيضاً يشعرون بعظمة أنفسهم قلت طاعتهم وقل تبجيلهم وخضوعهم لكائن من كان، وبذلك لا يفسحون للبطل بطولته فلا يكون. فلو وجد اليوم